مجتمع

رسالة إلى سامر

لم يكن ثمة مجال لمقاطعته؛ ليس لمعارضته بالضرورة إنّما لمجرد الاستفسار أكثر أو الاستيضاح. كانت عباراته السريعة المختصرة المتلاحقة سيوفاً تتوزّع في جميع الاتجاهات. انشغل عن انفعالاته بالكرسي الذي يجلس عليه. مرّت سنوات على زيارتي لمنزلهم. أتذكر الآن أنني كنت أفضّل هذا الكرسيّ على جميع الكنبات المريحة الأخرى. تسحبني عيون والديه: تكاد تقفز الدموع من عيني والده فيما تمتزج مشاعر كثيرة في عيني والدته. فرح وخوف وحب وإشفاق، سبق أن شاهدتهم بجميع تناقضاتهم حين كنت أنا من يجلس على هذا الكرسي نفسه. وها هو صوته يتدخل ليخرجني من كومة الذكريات هذه ويرميني في مستنقع آخر. صوته الغاضب من كل شيء؛ الناقم. الناقم غير الثائر. الناقم هو من اشتد سخطه واشتد تعييبه لكل ما حوله. نقمة لا يساعها جسده الصغير، فأراها تتسرّب من عينيه وأصابعه وركبتيه وصدره قبل فمه.

فرص العمل، المواصلات، الغلاء المعيشي، الكهرباء، الصرف الصحي، المياه، المساحات العامة، الآفاق، البيئة ثم البيئة ثم البيئة، ودائع أهله وأقربائه، تداول السلطة، الإنترنت، اشتراك نتفلكس، التفاوت الطبقي الرهيب… وكل تلك العناوين التي مرّت أمامه على “فايسبوك” أو شاهدها عبر إشارة أحد “الانفلونسر” إليها على انستغرام، أو سمع عنها في مقدمات نشرات الأخبار. يجمعها كالعصي من وديان الفساد والإهمال واللامبالاة، ليضرب؛ ثم يجمع “دزينة” أخرى ليضرب مجدداً وهكذا دواليك. يضرب الجدران والسقف والأرض ونحن. نحن: أمه ووالده وأنا والأقرباء الذي أتوا لمعايدتهم.

سامر مواليد عام ألفين. كنت في السابعة عشر حين ولد، وقد رافقت والدتي في زيارتها لأهله من أجل تهنئتهم بولادته. لكن ذلك العام كان حافلاً بالأحداث، ولم يكن ممكناً لصالونهم أن يتسع لحماستي ونقمتي مع بعضهما. فلم التفت للمولود الجديد ولم أترك مجالاً لتبادل الأحاديث التقليدية في هكذا مناسبات. ومن على ذلك الكرسي الذي يجلس سامر اليوم عليه رحت أهدّد وأتوعّد، وأعد أهل البيت بصناعة مستقبل آخر لي ولسامر، بوطن آخر لا يشبه الوطن الذي نعرفه. كل ذلك دون أن أترك أي مجال للمقاطعة سواء للاستفسار أو الاستيضاح أو المعارضة، دون أدنى مبالاة بتلك العيون الشاخصة إليّ بكثير من المشاعر التي يختلط فيها الفرح بالخوف والحب والإشفاق.

أستعيد الزيارة السابقة كاملة؛ تفرجوا عليّ؛ اتركوني أقول كل ما أوّد قوله؛ ثم، ونحن نغادرهم عند الباب “طبّش” أبو سامر على كتفي وقال لي: “كنّا متلك يا عمّو بس كنا قدك، بكرا بس تكبر بتتغيّر”.

بعد ذلك بعام وكان عاماً حافلاً بالتوقيفات الطلابية، وجدتني أمام العبارة نفسها بالطريقة نفسها في غرفة المحقّق الأمني: تركني أقول كل ما أوّد قوله وأكثر عن الحرية والتحرّر والمحاسبة والسيادة وحبل المشنقة الاقتصادية، دون أن يكتب شيئاً على الأوراق البيضاء التي أمامه؛ ثم قام من خلف مكتبه ليربت على كتفي ويقول: “كنّا متلك يا عمّو بس كنا قدك، بكرا بس تكبر بتتغيّر”. ثم، بعد ذلك بخمسة أو ست أعوام، ما كدت أخبر مجموعة الصحافيين اللبنانيين الذين أشارك معهم في دورة تدريبية في مصر عن طموحاتي حتى قال أحدهم “كنا متلك أول ما بلشنا شغل، بكرا بتتغيّر”.

أرى سامر أمامي غير معنيّ بالتفاصيل. سامر يقرأ المكاتيب والكتب والمقالات والتقارير والـ”بورتريهات” والتحقيقات من عناوينها، ولا يريد أبداً أن يسمع أو يناقش أو “ياخد ويعطي”، أو ينجرّ إلى واحدة من تلك الألاعيب التي من شأنها إخماد طموحه أو وأد عزيمته أو تقييد نقمته. سامر كان في الخامسة من عمره حين اغتيل رفيق الحريري وعاد الرئيس ميشال عون من المنفى وخرج سمير جعجع من السجن. ولد وعاش وسافر واحتفل بعيده العشرين فيما الزعماء هم أنفسهم الزعماء، والنواب، والمشاريع، والبنية التحتية، والوعود.

والده عند باب بيتهم. يجلس سامر على الكرسي الذي جلست عليه في زيارتي السابقة قبل عشرين عام. أما أنا فأضيع أين أجلس أو أقف. هل أقبل فعلاً أن أجلس بالوسط بين هذا الشاب على كرسيه ووالده عند الباب، أو أميل للجلوس بجانبه أو الوقوف قرب والده. أسمع صدى صوتي قبل عشرين عام يلعلع بالتهديد والوعيد والوعد بمستقبل آخر لي ولسامر. ماذا أفعل؟ هل “أطبش” على كتف هذا الشاب كما فعل والده لي قبل عقدين، وأقول له ما سبق لوالده أن قاله لي؟ أو أمسح كل هذه المشاعر المتناقضة من عينيّ، وأضع بعض الثقة في عينيه وأطلب منه أن لا يسمع ما سيقوله له والده؟

ستكبر وتتغيّر يا سامر أو لا؟ لا، ليس بالضرورة أبداً يا سامر أن تكبر وتتغيّر. ليس بالضرورة أبداً يا سامر أن تكبر وتتغيّر لكنك ستراكم الاكتشافات. ستكتشف كل يوم يا سامر حجم قوة هذا النظام وأن ما يخبرك إياه “الإنفلونسر” والعرّافون والمنجمون عن هشاشته ليس دقيقاً أبداً. ستكتشف أنه وبعد كل ما لحق بالنظام من جفاف ماليّ، ما تزال التنفيعات كثيرة جداً جداً والمنتفعين أكثر بكثير مما تتخيل. ستكتشف أنّ النظام ليس سياسيين فقط، إنما سياسيين، ومؤسسات رسمية ودينية، ومؤسسات خاصة، وشركات نفط، ومقاولات، وإسمنت، وغاز، ومواد غذائية، وتعهدات مختلفة، ووكالات سيارات، ودواء؛ والنظام مصارف، ومدارس، ومستشفيات، ونوادٍ، وجمعيات، وبلديات، ووسائل إعلام، ومليشيات، وأطنان من الرشاوى اليومية، وأجهزة أمنية، وأجهزة قضائية، وسجلات عقارية، ودوائر ضريبية، وسجلات تجارية، وأفران، وشركات هاتف، وهيئات، وإدارات، وكسّارات، ومجالس، وصناديق، ورخص مختلفة، ونقابات، ومحطات وقود. أصغر أصغر أصغر مؤسسات النظام تدعى هيئة إدارة التبغ والتنباك يا سامر؛ وما أدراك يا سامر ما هي هذه الهيئة برخصها، وتراخيصها، وموظفينها، وأرباحها، وإعلاناتها، ومشاريعها الإنمائية. هذه الاكتشافات ضرورية لتعرف العدو الذي تهدّده وتتوعده؛ كما هو ضروري أن تعرّفك حجمك الحقيقيّ وحجمهم الحقيقيّ؛ كما هو ضروريّ جداً أن لا تحبط بعد هذه الاكتشافات أو يخمد طموحك.

ما قاله لي والدك، ثم ضابط الأمن، ثم الصحافية اللبنانية في القاهرة غير صحيح يا سامر. الجيل الذي سبقنا ذهب في نقمته إلى حدّ المتاريس، سُمح لهم بأن يتقاتلوا به حتى أفرغوه بالكامل من كل أمل، فبات يكتفي ببعض الخدمات الفردية والمصرفية. جيلنا أضاع شبابه في الانقسام السياسي الحاد بين 8 و 14، بعيداً عن الحقوق الأساسية والثوابت المعيشية والمواطنة. جيلنا ألغى الحياة الطلابية والنقابية وأفرغ السياسة من كل مضمون اقتصاديّ، واجتماعي، ومطلبيّ، ومعيشيّ. جيلنا حوّله نفسه بنفسه إلى ماكينات استهلاكية لا تعنيها البيئة أو الثقافة أو الصناعة أو الزراعة أو حتى الموسيقى. ثمة ألف لكن، ولكن تخطر ببالي الآن لكن، لا حاجة لقولها: جيلنا سمح للجيل الذي سبقه بأن “يؤستذ” عليه ويورثه زعمائه؛ جيلكم لا يريد أن يسمع أو يرى أو يناقش ليكوّن تجربته الخاصة ويحقق اكتشافاته. أقلّ ما يمكن لجيلنا أن يفعله هو تشجيعكم وحثكم على عدم السماح لشيء بأن يخمد طموحكم أو يوئد عزيمتكم أو يقيّد نقمتكم.

غسان سعود

غسان سعود

كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى