يلزمني إخراج قيد فردي مستعجل… “لِم أنا مكدورة هكذا؟ الأمر سهل ولن يكلّفني سوى طلب إجازة وإيجاد لي صورتين شمسيتين و”كزدورة” إلى بيت الدين حيث تتم المعاملات الرسمية”… أقنعتُ نفسي.
عبر البريد الإلكتروني، أرسلت قبل يوم طلب إجازة من عملي مقتطفة من إجازاتي السنوية ليتسنى لي إنجاز مشروعي، فجاء الرد سريعاً بالقبول. جيد، تسير الأمور بإيجابية.
في اليوم التالي استيقظت باكراً، ارتديت ملابس عمليّة تليق بالمهمّة، وضعت القليل من مستحضرات التجميل، لزوم الصورة، وانطلقتُ في ما ظننته نزهة.
في بيت الدين، مركز الحكم في زمن المتصرفية، لم أجد مصوراً ليلتقط لي صوراً فورية، ما اضطرّني أن أقود ربع ساعة إضافية، ذهاباً وإياباً، حتى وصلت إلى بعقلين… لا يهم الوقت لا يزال مبكراً، أنهيتُ مهمّة الصورة وعدتُ أدراجي، هناك لم أجد مكاناً أركن سيارتي… انتظرتُ ربع ساعة إضافية حتى أخلى أحدهم “مرآبه” فورثته.
بدأ مزاجي يتعكر لكنني تجاهلته… قررتُ أن لا أنفعل.
بعد أن قطعتُ مسافة دقيقتين من الهرولة، مررتُ بمختار البلدة لأحصل على طلب إخراج القيد، فأعادني إلى مكتبة متاخمة لأبتاع الطوابع اللّازمة، لم أتذمر فقد نسيتُ أمر الطوابع والذنب ذنبي، أحضرت غرضي وعدت إليه.
جلست في مكتبه ألتقط أنفاسي، فأغرقني بوابل من الأسئلة المتطفلة، يا لثقل دمّه! لو لم أكن بحاجة إليه، لصرخت به ورميت الأوراق في وجهه ومضيت…
تمالكتُ نفسي ورحت أجيبه بابتسامة بلاستيكية… قررتُ أن لا أنفعل.
بعد عناءٍ، أنهيت محطتي عند المختار، تأبطت الطلب ومضيت إلى مأمور النفوس، هناك لم ألقَ مأموراً، ما رأيتُ سوى نفوسٍ تسطف في طابور طويلٍ أمام نافذة صغيرة، اتخذت لنفسي مكاناً بين الواقفين، كلٌّ لديه معاملاته الخاصة، بعضهم التزم بالصف والبعض الآخر راح يتجاوزه بحجة أنه على عجلة من أمره وكأن وقته أثمن من أوقات سواه … “البلطجة” فكرة والفكرة تحيا في كل الأمكنة.
سمعت أحدهم يصرخ وقد ضاق ذرعاً “خلّصنا يا طوني”…
طوني الموظف الذي يتسلّم طلبات الموظفين عبر النافذة وينقلها إلى المأمور، يبدو مهذباً لائقًا ودؤوباً، ربما احتكاكه مع العامة، وهو منهم، جعله الأقل تجهماً بين زملائه.
كم راتبه يا ترى؟ عندما يغيب طوني من يحلّ مكانه؟ وفي حال غيابه ماذا يفعل المواطنون الذين يقصدونه لإنجاز معاملاتهم؟ وهل أصلاً يحق له أن يغيب؟ عملُه مضنٍ، لا شغف فيه ولا تطوّر يُذكر… كيف يمكنه الاستمرار؟ ألحقته الزودة؟ هل هو من فئة المياومين؟
استفقت من زحمة الأسئلة على صوت طوني يناديني “تفضلي ماذا لديكِ؟”، أبلغته طلبي فاستلمَ الأوراقَ قائلاً “عودي غداً”، لم ينظرْ إلى وجهي حتى، فاستجديته بصوت استعطافي لا أدري من أين أتى “ألا يمكنكم أن تنجزوه اليوم؟ مضطرة إليه”.
الاستعطاف جاء بنتيجة إيجابية. “سأبحث بقدراتي التمثيلية مع أهلي فور عودتي، علّها تكون موهبة قيد الاستثمار”، قلتُ في قرارة نفسي.
“عند الثانية عشر سيكون منجزا” نطق طوني وقد عاد إلى بشاشته أم هكذا خيِّل لي، لا أدري.
إنها العاشرة والنصف، ماذا سأفعل في هذا الوقت الضائع؟! تمشيتُ قليلا في باحة المكان ورحتُ أعبث بهاتفي، بين تويتر والواتساب مضى ساعةٌ ونصف الساعة كومضة عين، وسائل التواصل الاجتماعي تلتهم وقتنا…
عدتُ إلى طوني وقد خلا المكان من زحمته لكنّ مفاجأة من نوع آخر كانت بانتظاري، فإخراج القيد لم يُنجز بل لا أثر لطلبي حتى!… قررتُ أن لا أنفعل.
دعاني طوني للدخول من الباب الرئيس “تفضلي ارتاحي”، لم أتردد في التلبية فقد أنهكني الوقوف.
بعد بحثٍ دام لعشر دقائق وجد الموظف ورقة الطلب ملقاة على طاولة محاذية لطاولته، ارتبك وأقسم أنّ الذنب ليس ذنبه، صدقتُه… أصلًا لا يهم، فالنتيجة واحدة.
استأذنني ودخل إلى مكتب مأمور النفوس ليسلمه الطلب، فترامى إلى مسمعي حديثهما وأكثر ما لفتني “بنت رياض! وينيّي؟”.
خرج إليّ رجلٌ في مطلع الستين من عمره، قصير القامة حادُ الملامح متصنع الحفاوة: “انتِ بنت رياض؟ ليش بتحكيش يا عمي؟”، ودعاني إلى مكتبه لأحتسي القهوة فاعتذرتُ بصوتٍ خافتٍ وكلماتٍ مقتضبة “معليش مستعجلة”.
غاب لدقيقة لا بل أقل وعاد ملوّحا بإخراج القيد المُنتَظر… إذاً الأمر لا يستغرق ساعات كما أوهموني! فقبضته وهممت بالانصراف، لكنّ المأمور “الخواجة” أراد أن يودّعني كما استقبلني “في المرّة المقبلة، لا تنتظري في الخارج بل ادخلي مباشرة إلى مكتبي”.
جال في خاطري أن أصرخ بوجهه وأُمطره توبيخاً، وددت أن أقول له “ألا تخجل من معاملتي بلطف بحجّة والدي أو بالأحرى بحجّة معرفتك به، كيف لي أن أدخل وأخرج أمام أعين المواطنين الذين ينتظرون ساعات في الخارج؟ أي محسوبيات يغرق بها بلدُنا؟”.
لكني لم أقل شيئًا من هذا بل اكتفيت بتمتمة “يعطيك العافية” وانصرفت…
جيّد على الأقل نجحت في التحدّي… ولم أنفعل.
نُهاد غنّام