خلال الأيام القليلة الماضية فقط حقق الحراك الشعبي إنجازين بالغي الأهمية وفرا له المزيد من الزخم، قبل أيام على الذكرى السنوية الاولى لمأساة المرفأ في الرابع من آب المقبل التي تستعد لها المجموعات بقوة وستشارك فيها أهالي شهداء المرفأ ذكراهم الأليمة غنطلاقا من ساحة المغترب في مواجهة مكان الإنفجار.
فقد حققت مجموعات وشخصيات الانتفاضة وقوى التغيير (المصطلح الذي يحبه البعض للدلالة على معارضي منظومة السلطة) انتصارا مدويا في انتخابات نقابة المهندسين وتمكنت ايضا من ايصال المهندس عارف ياسين نقيباً. كما تمكنت عبر حملة اعلامية هائلة مع دفع كبير من الشرائح المعترضة على السلطة في الاعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، من تعرية العريضة النيابية التي تطالب بنقل محاكمة النواب والوزراء المتهمين بقضية انفجار المرفأ من القضاء العدلي الى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، فارغ المضمون والدور، والتي رأى اهالي الضحايا فيها رغبة كامنة من قبل السلطة لتمييع محاسبة المرتكبين أو المتورطين أو المقصرين في الجريمة.
لم يأت ذلك عن عبث، فما بعد تاريخ 17 تشرين الاول 2019 ليس بالتأكيد كما قبله، ويرى الحراكيون في ما أفرزته انتخابات نقابة المهندسين مؤشرا على المزاج الشعبي العام الذي حلّ في النقابات عبر تحريرها من براثن السلطة وصولا الى باقي القطاعات بعد ثلاثين عاما من سيطرة المنظومة التي صاغت الانتخابات الداخلية للنقابات كما تشاء.
إنه رأي تفاؤلي يسود لدى المجموعات عزّز الشعور الذي تلا إنتخابات طلابية عدة، ويُعبر عنه لـ”أحوال” المحامي والناشط علي عباس الذي يستذكر ما حدث في نقابة المحامين ويعوّل على ما سيحصل في البلديات.
ففي المهندسين تحقق الفوز على احزاب الحكم برغم اجتماعها، على تناقضها، مع بعضها البعض لحماية نفسها من المحاسبة ولحفظ وجودها. طبعا، لا يؤشر هذا الفوز الى تغيير حتمي في الاستحقاق النيابي المقبل حيث الظروف مختلفة وتتعلق بطبيعة القانون وبما ستخلقه قوى الحكم من شد خبيث للعصب الطائفي لدفع حتى البعيدين عن تلك العصبية الى الاصطفاف معها، كما يؤكد الناشط في “المرصد الشعبي لمحاربة الفساد”.
وبالنسبة إلى الحراكيين، فإنها “معركة وعي” لإيقاظ الناس وقيادتهم نحو التغيير خاصة مع الرغبة بمحاربة
تجربة نقابة المهندسين التي كسرت القيد الطائفي وجاءت بنقيب شيعي صدفة على غير العرف السائد، في سبيل عدم اسقاطها على غيرها لأنها تمهد بطبيعتها الى فكرة الدولة المدنية الصحيحة، وهي طبعا غير تلك المدنية المزعومة والهجينة بالطائفية في لبنان والتي لا مساواة في الحقوق والواجبات فيها لدى كل المواطنين.
ومن ناحية تطويق العريضة النيابية وتعريتها المستمرة من نواب مؤيدين لها، فهذا يدل على قدرة الحراك وطبعا اهالي ضحايا كارثة المرفأ على تشكيل رأي عام ضاغط أفقد قوى في الحكم مصداقيتها.
ويسأل عباس هنا: لماذا أنشأنا المجلس العدلي اذا كنا في كل مرة سنحوّل اختصاص محاكمة قاض أو وزير أو رجل دين مثلا الى محكمة الرؤساء؟ ولماذا يقوم مجلس عدلي اذا وهو محكمة خاصة؟ ولماذا علينا ان نحوّل كل صاحب صفة الى محكمة خاصة به؟! لذا فكل الاختصاصات يجب ان تُلغى لصالح المجلس العدلي كونها جريمة وطن وتهز أمن الدولة العام وهي من القضايا التي قد تؤدي الى انهيار الوطن.
كسر الهَيبة
وقد عمل رد الفعل الشعبي في محاصرة تلك العريضة مستثمرا أخطاء لا بل خطايا السلطة المعهودة منذ 17 تشرين وما قبلها طبعا. وفي قراءة لمسارها منذ البداية وما حققته من دون التغاضي عن السلبيات، فإن الانتفاضة اندلعت نتيجة تراكم من الاحتقان الشعبي على منظومة فساد كان الجميع، حتى بمن فيهم المؤيدين للزعماء، يُقرون بواقعها فكانت اللحظة التاريخية التي نزل فيها الشعب الى الشارع.
والحال انه بعد نحو عامين على ذلك التاريخ، ثمة قراءة موضوعية يجريها الحراكيون بمآل “الثورة” وما لها وما عليها إنطلاقا من الطوفان الكبير في الايام الاولى الذي فاجأ المجموعات الصغيرة التي كانت تنشط في الشارع والتي حال نقص الخبرة التنظيمية لديها دون مواكبة الزخم الشعبي وسط أوهام التغيير السريع والحتمي لدى كثيرين.
لكن عباس يلفت النظر الى ان ذلك يشكل دليلا على عفوية الاحتجاجات التي جرت حينها “لكن لم يكن في استطاعتنا فهم كل المكونات وخلفياتها مناطقيا وطائفيا وإرثيا”، إلا أنه في المقابل يؤكد أنه لا يجب محاكمة الثورة على هذا العامل الذي لم يكن في الامكان تجنبه وهذا أمر يتطلب دراسات طويلة من قبل اخصائيين تُعني في فهم طبيعة تلك الشرائح ومتى نضجها لإطلاق الثورات ورفض إرث الواسطات وقوى الحرب الاهلية والطائفية.
والواقع انه كان من الواضح ان المنظومة تسللت الى تلك الثغرات وتغلغلت في الشارع وطرحت مواضيع خلافية لا حلول للحراكيين حولها ونجحت في شرذمة مجموعات عدة. وتمثلت ثغة أخرى في طرح البعض مواضيع استراتيجية خلافية مثل السلاح والحياد، وأسئلة تتمحور حول سبب سقوط رئيس الحكومة السني دون غيره، ناهيك عن دفع السلطة لشرائح طائفية الى النزول الى الشارع لشتم زعماء الغير واستدراج المعارك التي تأذت منها الانتفاضة..
وبذلك تسلمت منظومة الحكم المبادرة ولا تزال مستفيدة من جوع الناس وخدماتها لاستعادة شعبية فقدتها سابقا. لكن ذلك لا يعفي المجموعات من مسؤوليتها حيال التصدي لهذا الأمر.
“لقد كان دورنا هو اقناع الناس ان البديل يعد افضل من الحالي وهو ما لا يقتنع به كثيرون للأسف، وقد اضاعت المجموعات الوقت على الحوارات والندوات وناقشت النظام الذي سيلي وكأننا ربحنا الثورة!”، يقول عباس، “وكان يجب التوحد على مبادىء الثورة التي قامت من اجلها مثل اقامة حكومة مستقلين مثلا واقرار تشريعات معينة كاستعادة الاموال المنهوبة وتحرير السلطة القضائية، مع تأجيل النقاش حول طبيعة قانون الانتخابات والنظام البديل والتوجهات الاقتصادية.. ما ادى الى شرذمة بين المجموعات التي كان عليها ان تترك تلك القضايا الى الخلايا الأصغر، وهذا يؤشر الى خلل في التنظيم”.
اليوم، تجهد المجموعات لتوحيد الجهود والهدف الاول يتمثل في الانتخابات النيابية. وقد تشكلت نواة جبهات عدة مثل “نداء 13 نيسان” وتلك التي يحضر لها حزب “الكتائب” و”نحو الوطن” وآخرها “كلنا إرادة” إضافة الى مؤتمر جامع للمعارضين في الجنوب تحت عنوان “مؤتمر الجنوب” وغيرهم..
تلك الإئتلافات على توسيع نفسها لإكمال المعركة مع فتح الامر امام مجموعات جديدة للانضمام إليها واقتناص شرائح من مناطق مختلفة.
تعلم المجموعات أن عامل الوقت ليس لصالحها كون التدهور يسير باضطراد خاصة مع كون البلاد لا تعمل على “أرض مسطحة” بل نزولاً نحو القعر، والهامش يكبر مع الايام لتصبح الناس في هوة عميقة تبحث معها عن اولويات الحياة المطلبية المجتمعية بدلا من ايلاء الاولوية للثورة وللسياسة، وهو ما يطمئن السلطة بطبيعة الحال.
لكن ذلك لا يحجب ما حققته الانتفاضة في مرحلة صعبة جدا كان مقدرا لها ان لا تتحقق خلال عشرات السنين. ولعل اهم ما تحقق كان في كسر الهيبة الاساسية للسلطة التي لم تكن تتخيل انها ستصبح ملفوظة يوما ما من الشعب الذي يحتفظ بكراهية شديدة للمنظومة. ويرى عباس ان واجب الحراكيين تعليم الشرائح الشعبية على ترجمة هذا الرفض الى ما هو واقع على الارض في صندوق الاقتراع او اي مكان آخر لإيصال الرسالة الى المنظومة التي ستُعرى الا من المنتفعين وجزء من فسادهم.
كما ان حراك الشارع تمكن من توليد مبدأ المحاسبة للسياسيين، فلم بعد في استطاعة احد اتخاذ اي قرار من دون انتظار المحاسبة ليصبح معرضا الى محاكمة الرأي العام، ويمثل موضوع العريضة النيابية المثال الأكبر لذلك.
وتمكنت المجموعات، حسب القيادي في الحراك، من طرح بدائل حول الوزارات المتهمة بالفساد وقدمت انظمة بديلة ومجموعة دراسات حول امور انقاذية بديلة وبرامج في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والقضاء والعدل والإدارة الأمنية. “فقد شددنا على تحول الاقتصاد الى اقتصاد منتج والقضاء الى قضاء مستقل وأكدنا على مبدأ فصل السلطات ودعونا الى تطهير الادارة وتوزيع المواقع عبر آلية منتجة وغير منهكة، كما في موضوع السلك الامني الذي تحتاجه البلاد في مكافحة التهريب مثلاً..”.
لذا فمن غير المنطقي مطالبة البعض للحراك بأفعال وهو خارج السلطة بينما على مؤسسات الدولة التحرك والفعل والمراقبة.
متى تتحرك الناس؟
هو سؤال هام اليوم مع اعتصام غالبية الذين نزلوا الى الشارع في منازلهم، ويقول عباس إن هذا يعود الى الظروف الموضوعية على الأرض وخاصة نفسية الناس ودرجة الاحباط والغضب، علما ان كل ذلك قد يتفجر في لحظة اذ ان التزام الناس منازلها لا يعني انها غير معارضة للوضع القائم.
وبات على الحراكيين استثمار كل ذلك عبر كسر حاجز الاحباط والخوف من السلطة ومن المستقبل، وهذا ما حصل في اللحظات الاولى لـ 17 تشرين حين لم يكن المعترضون في الشارع يتجاوزون المئات.
على ان المهمة الاولى اليوم تتمثل في اقناع الشرائح الشعبية بماهية حقوقها وبقدرتها على التغيير وعدم الخشية من عدم حفظ خط الرجعة مع الزعماء وسط اقتراب الإستحقاق الإنتخابي الذي يشوب أداء الحراكيين البطء في التحضير له نتيجة نقص الخبرة السياسية لديهم، علما ان اكبر خطأ يقع بين “الثوار” عندما يدينون من لا ينزل الى الشارع، فهذا الأمر سيدفع بهم الى التردد اكثر وعدم كسر حاجز الخوف، كما يردد الكثير من الحراكيين.
عمار نعمة