منوعات

مطاحن الحجير… من مرمى نيران العدو إلى مصيف للفقراء  

تراجع الأوضاع الاقتصادية، جعل من وادي الحجير الأخضر مركزًا أساسيًا للاستجمام، وملاذ الأهالي، في بنت جبيل ومرجعيون، الذين يقصدون نبع الحجير ومطاحنه الجميلة، التي تحيط بها المياه العذبة، والتي كانت الاحتلال قد دمّر أغلبها  في حرب تموز، ثم أعيد ترميمها. لتصبح المنطقة بأشجارها المعمّرة، مقصد الأهالي للسباحة والترفيه.

الطرقات المؤدية إلى الوادي أصبحت كثيرة ومتشعبة ومعبّدة، وأصبح أهالي بلدات مجدل سلم وقبريخا وتولين والقنطرة والطيبة وغيرها يعبرون طريق الحجير قاصدين مدينة النبطية وصيدا وبيروت، يستمتعون بالمناظر الخضراء الخلاّبة، متوقفين في بعض الأمكنة داخل الوادي، لشرب المياه من العيون المرمّمة حديثًا من بعض البلديات، أو لالتقاط بعض الصور، خاصة أمام المطاحن.

مشهد “مطحنة الرمّانة”، التي أصبحت ملكًا لموسى علي حجازي من بلدة قبريخا، جميل وملفت، بعد أن قام صاحبها بترميمها بعد التحرير عام 2000، وأفرد لها عامل يحافظ عليها ويهتم بالأشجار المحيطة بها، ويستقبل الزائرين الذين يأتون من أماكن بعيدة لالتقاط الصور والتجول داخل المطحنة، شارحًا عن تاريخ المطحنة وكيفية عملها، مذكرًا بالاعتداءات الاسرائيلية التي هدمت جزءًا منها في حرب تموز.

يقول محمد حجاز ” يعود تاريخ  بناء مطحنة الرمانة والمطاحن المجاورة إلى ما يزيد عن 300 سنة، وهي كانت ملكًا لآل صبرا من القنطرة، لكن الاسرائيليين دمروا بلدة القنطرة القديمة عام 1978 وقتلوا 15 شخصًا من أبنائها من بينهم صاحب المطحنة آنذاك علي حسين صبرا، وبعدها قام الورثة ببيعها لرجلين من بلدة الطيبة والأن هي ملك لموسى حجازي الذي حرص على إعادتها إلى ما كانت عليه سابقًا، لكن شحّ المياه بسبب قلّة الأمطار يوقف دوران المطحنة”.

وقد قام حجازي الذي يعمل في أفريقيا ويأتي صيفًا، بتزيين المطحنة بالأدوات التي كانت تستعمل سابقًا، وعلّق على جدرانها الداخلية بعض أنواع الأسلحة التي كان يستخدمها المقاومون ضد الاستعمار الفرنسي، مع صورة قديمة لأدهم خنجر وصادق حمزة الفاعور. وهو يسعى إلى تحويل المطحنة إلى منتزه يستقبل السياح والمصطافين، لكن ذلك بحسب محمد حجازي يحتاج إلى الأمان والاستقرار.

يزور مطحنة الرمانة العديد من الأهالي، خاصة من أقرباء حجازي وأصدقائه، ويعقدون السهرات، خاصة في الصيف، ويذكر محمد حجازي أنّه “قام مؤخرًا أحد ضباط الجيش اللّبناني برفقة ضابط فرنسي كبير بزيارة المطحنة، وأثناء تجوالهما داخلها سأل الضابط الفرنسي عن الصورة المعلّقة على الجدار، فقال له الضابط اللّبناني أنّها صورة قادة المقاومة الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي، عندها اقترب الضابط الفرنسي من الصورة وأدّى التحية لصادق حمزة وأدهم خنجر، فقال الضابط اللّبناني هكذا يُحترم المقاومون”.

وتعقد أحيانًا في الصيف أمسيات شعرية داخل المطحنة التي ينظمها السيد أحمد شوقي الأمين، بحضور العديد من الشعراء والمهتمين. ويذكر أن مطحنة الرمانة أصيبت بقذائف العدو الاسرائيلي أثناء حرب تموز ما أدّى إلى تدمير الحمامات الخارجية والمولد الكهربائي الخاص بالبئر الارتوازي، وهذه المطحنة هي واحدة من ثمانية مطاحن قديمة تبعد عشرات الأمتار عنها، وقد دمّر العدو في الحرب الماضية أربعة منها تدميرًا كاملًا وهي مطحنة السمحاتية، ومطحنة أبو شامي (لآل شامي من بنت جبيل) ومطحنة الشقيف ومطحنة قرين. كما تضررت المطاحن الأخرى التي يعمل أصحابها الآن على ترميمها وهي مطاحن العين والجديدة والسلمانية.

ويقول حسن مؤذن، أحد أصحاب مطحنة العين، أنّ “المطحنة معطّلة الآن وقد ظلّت تطحن القمح حتى العام 1985، عندما وضع الاسرائيليون الشريط الحدودي، فأصبح وادي الحجير عرضة لنيرانهم، ويمكن إعادة تشغيلها إذا تمّ استبدال القوابي القديمة بآلات حديثة، إذ لم يعد يوجد من يستطيع صنع العامود الأساسي للمطحنة والمعدات الأخرى القديمة التي تعمل على ضغط المياه”.

يشير مؤذن بيده إلى المكان الذي عقد فيه مؤتمر وادي الحجير، فيقول “هنا عقد قادة المقاومة مؤتمر الحجير، تحت شجرة  كبيرة من التوت وأخرى من الكينا”. جميع هذه المطاحن كانت شبيهة في نمطها المعماري، فالواحدة منها مبنية على شكل زاوية، مؤلفة من غرفتين، غرفة لطحن القمح وأخرى تستخدم لنوم العمال، وكانت هذه المطاحن تُقصد من جميع أبناء قضائي بنت جبيل ومرجعيون.

الجدير ذكره أنه في 24 نيسان 1920 “عقد بالقرب من هذه المطاحن مؤتمر الحجير بحضور المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين وزعماء المقاومة وعدد من كبار وجهاء جبل عامل وأعلنت الثورة ضد الفرنسيين. هناك “جلس صادق حمزة أمام العلماء والقرآن بين أيديهم فأخذوا عليه وعلى رجاله الإيمان المغلّظة أن لا يتعرّض لأحد من المواطنين من أبناء جبل عامل، مسلمين كانوا أم مسيحيين. فأقسم بذلك واستثنى من كان مؤلبًا للفرنسيين على الوطن واستقلاله، مجاهرًا بذلك للغاصبين المحتلين مسلمًا كان أو مسيحيًا أو من أي مذهب كان لأن جهادنا سياسي لا ديني …”.

بحسب المؤرخ الدكتور منذر جابر وفي نفس الوادي أيضًا، استطاع المقاومون في حرب تموز 2006 قتل 33 جنديًا اسرائليًا بينهم ضباط وقادة سرايا وفرق مدرعات وجرح المئات منهم وتدمير ما يقارب خمسين دبابة ميركافا وعدد كبير من الجرافات العسكرية باعتراف الإسرائيليين أنفسهم. في حين لم يستطع الجنود الاسرائيليين الاّ تدمير مطاحن الحجير التراثية إضافة إلى حرق أشجار الزيتون الكبيرة المعمّرة في المكان، ونشر الآلاف من القنابل العنقودية.

 

داني الأمين

داني الأمين

صحافي وباحث. حائز على اجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى