يوم توقّف قلب بيروت عن الخفقان… فأحياه لهاث كلب
لم يخطر ببالي يوماً أن أكتب عن كلب…
نسبياً، علاقتي بالحيوانات جيدة، أذكر انني اقتنيت كما سائر الأطفال أسماكاً، استمتعت بسباحتها في ذلك الوعاء الزجاجي الصغير، قبل أن تبدأ بالارتحال الواحدة تلو الأخرى، حالها كحال الصيصان الملونة، التي اشتراها يوما أغلب الاهالي لأطفالهم من الباعة المتجولين، من دون أن ندرك حجم المعاناة، التي تعيشها هذه الكائنات، قبل ان تمكث في ضيافتنا، أياما معدودة، لتخبرنا عن المعاني الأولى، لاختبارات الفراق.
لا يفوتني أن أنسى أنني اقتنيت في صغري قطة، اسميتها ديانا، ما أذكره عنها، انها كانت شديدة الجمال، خصصت لها مساحة على سطح المنزل، لكنها لم تكف عن المواء، لم تنم طوال الليل، كحال الجيران، الذين أرّقهم مواؤها، ما اضطرني الى الاستغناء عنها في اليوم التالي.
لم أفكّر يوما في اقتناء كلب، الى أن حصلت على جيرمان شيبرد، (كلب الراعي)، الذي يعدّ من أفضل كلاب العالم بسبب تعلقّه بالإنسان وإخلاصه له، فضلا عن كونه من أفضل أنواع الكلاب التي تستعين الشرطة بها، لشدة ذكائه وقوته.
شيّدنا منزلا صغيرا للكلب، وأوكلنا مهمة الاهتمام به الى والدي، المتواجد في القرية، وكنت التقيه كلما زرت قريتي ليومين أو ثلاثة من كل أسبوع.
كنت أسمع الكثير من القصص عن حكايا وفاء الكلاب للإنسان، والتي كنت أجد فيها ضروبا من المبالغة، فما الذي قد يجمع بين الانسان والحيوان سوى متعة الاقتناء، ومن الفطري أن يبادر الحيوان الى رد جميل، لأي مهتم به.
ظلت هذه الصورة هي المرسومة في خاطري، الى أن أخبرني الكلب بأن الأمور لا تقاس من هذه الزاوية فقط.
لم أصب بمسّ، ولم أفقد صوابي، فما يمكن أن يعلّمه الحيوان للإنسان، قد لا يقلّ قيمة عمّا يعلّمه الانسان له.
كان للكلب عينان تشعان بريقا، يمكن أن تقرأ فيهما الكثير، فلست أبالغ إن قلت أنني كنت استطيع أن أرى بريق الفرح في عينيه، لحظة وصولي الى المنزل. كان يصارع بألم ذلك الطوق الذي يقيّد حركته، كان يريد أن يكون أول المحتفلين بوصولي، كان يريد استثمار الوقت للقفز بين احضاني، كصديق ينظر تربه على أحر من الجمر.
لا مفر من أن تلاعب الكلب قبل القيام بأي خطوة، لهفته عليّ، كانت تفرض طقوسها الخاصة. يخبرك الكلب بتعابير مختلفة، أنه لا يريدك أن تتركه، يخبرك بأنه لا يريد للّقاء أن ينتهي، كان نباحه سرعان ما يتخضب بالحزن، كان أشبه بطفل يدب على الأربعة، ولا ادري إن كنت أبالغ، لكن فعلا كان يمكن رؤية الدمع في عينيه، لحظة أتركه وأبتعد عنه.
كان الكلب يتطلّب إهتماما خاصا، وكان أبي بالقدر المتاح له من الوقت، يحاول إيفاءه حقه، لكنه كان يتطلب مساحة اكبر من الاهتمام، الى أن اتّخذ والدي القرار بالاستغناء عنه، لصالح عائلة قادرة على منحه الاهتمام اللازم.
ما ورد في السطور أعلاه، ليس بهدف الحديث عن تجربتي الشخصيّة مع الحيوانات، إنما للانتقال من الحالة الخاصة الى العامّة، في لحظات يتحوّل فيها الحيوان بطلا، يتحوّل الى منقذ، كتلك المقاطع المصوّرة التي نشاهدها على وسائل التواصل الاجتماعي، أو على قنوات الوثائقيات، وإذ، كأنه كُتب لبيروت أن تحيا في ليلة ظلماء، بلهاث كلب.
قد يبدو لكثيرين، أن كل ما رافق رواية الكلب التشيلي تفاهة،
لا تستحق عناء التوقف عندها، فليس تحت الركام، سوى جثث دفنها الفساد والإهمال، وليس العصر، عصرَ معجزات، الا أن البعض يغفل أن بين الاشلاء، عشرات الأماني والآمال المسحوقة والممزّقة، فعند واجهة بيروت البحرية، دفنت عائلات حيّة، ولا زال أحياؤها يترنّحون على شفير الامل.
أتفهّم، أن يعجز من لم يختبر لوعة الفراق، عن فهم حجم الألم الذي يعصر قلب أمّ، لا زالت تنتظر ابنها المفقود، على آرائك القلق، أن تعلقّ زوجة آمالها، على حاسّة كلب، ليحمل بين فكيّه، إجابات تثلج صدر أبنائها، عن سبب غياب أبيهم.
يا لتلك اللحظات الممزوجة بالأمل والالم، هل فعلا كان هناك بين المفقودين، من قضى أيامه ولياليه، يقتات الألم بالعثور عليه، قبل أن يتوقّف قلبه عن الخفقان؟
هل هناك من أمضى لياليه جائعاً عطشانا، عاجزا عن اسماع صوته! يسمع تلك الآليات الضخمة، تهوي بالقرب من جسده المترامي، فينهك بالبحث عن إجابات عن طريقة حتفه.
أي إنسانية تلك، حملها الفريق التشيلي عابرا المسافات، ليبحث في لبنان عن مفقودين دفنوا أحياء بأياد لبنانية!
وصل الفريق بيروت، بلا استعراضات، ومن دون أن يشترط مسبقا حجز فندق فخم، حضر الفريق بمعداته وكلبه، الى بلد دفن فيه انفجار بيروت، آخر بوارق الامل، وحوّل مواطنيه الى مشاريع جثث متنقلة، في بلد كثر فيه الموت وتعدّدت أسبابه.
في يوم من الأيام، انتشرت على وسائل التواصل عبارة “بئس لزمن صار فيه الوفاء فرنا”، في إشارة طريفة الى (فرن الوفاء)، واليوم، إستفحل الفساد في لبناننا، حتى بات اللبنانيون، ينتظرون بادرة وفاء، تجاههم، حتى ولو جاءت من كلب غريب.
إبراهيم درويش