غاضب ويشعر بالرغبة بالانتقام من كل من تسبّب بانفجار المرفأ، وتدمير حياة العاصمة وأهلها، يخلق المخرج اللبناني فادي حداد من الضعف قوة، مستعداً للبدء بالتحضير لفيلمه الجديد “العنبر 12″، الذي يؤرخ سيرة مدينة، عصف بها انفجار عصر يوم عادي، فخلّف وراءه مآس لا تعدّ ولا تحصى، وروايات تستحق أن تخلّدها الذاكرة الجماعية لشعب اعتاد معايشة المآسي فأصبحت جزءاً من تكوينه وماضيه وحاضره.
نسأله:
– عند وقوع الانفجار كنت مع فريق العمل في مكان التصوير في منطقة الدورة، كيف تصف تلك اللحظات؟
كنّا نقوم بتصوير فيديو كليب للفنانة الجزائرية “كاميليا ورد” في مستودع تحت الأرض، وفجأة شعرت كأن باب جهنم فُتح أمامنا، سقط السقف فوق رؤوسنا، حاولنا الهروب للوصول فوق الأرض، وأوّل من تبادر إلى ذهني هم عائلتي، وددت الاطمئنان عليهم، ولكن تعذّر ذلك بسبب توقّف الاتصالات. ما شاهدته تلك اللحظة يعجز الكلام عن وصفه، كانت قنبلة نووية بالفعل.
ثم أردت الاطمئنان على فريق عملي الموجود في منطقة الجميزة، ولا يمكنني قول ما رأيته من دمار بشري، كنت أسمع أنين الناس وصوت ألمهم ووجعهم، شممت رائحة الدم المغموسة بالغدر، إنها مذبحة جماعية.
– هل تعيش اليوم صدمة ما بعد الانفجار؟
أكيد، ما حصل في ذلك اليوم تعجز أهم شركات انتاج هوليوود عن تنفيذه. أنا أعتبر نفسي اليوم انسانًا ميتًا.
أود أن أسأل الدول في أي بلد من العالم لحظة وقوع كارثة كبيرة لا تجد سيارات إسعاف، أو صليب أحمر، أو شرطة؟
في لبنان لحظة الانفجار لم نجد بجانبنا غير الغبار المتطاير، أين هي تجهيزات الدولة لمدّ يد العون للمنكوبين؟ الجرحى زحفوا بأنفسهم نحو المستشفيات التي لم تستطع استقبالهم بسبب الأضرار الجسيمة التي طالتها.
نحن في بلدٍ هشٍّ ودولة باعت شعبها بالرخيص.
– متى قرَّرت توثيق هذه الجريمة للتاريخ من خلال فيلم “العنبر “12؟
حين شاهدت ابتسامة المسؤولين وعدم مبالاتهم وبرودة دمهم أمام جريمتهم، جميعهم قتلى.
لذا قرّرت أن “أمسح بهم البلاط ” من خلال أعمالي، ليس فقط فيلم “العنبر 12″، ولكن سأقوم بتحضير مسلسلات وأفلام وثائقية، وكلها ستتضمّن فيديوات ومشاهد حقيقية والتي بدأنا فعلًا بجمعها، لا أستطيع محاربتهم سوى بأعمالي وعدستي التي ستلتقط كل صغيرة وكبيرة حدثت مساء 4 آب.
– من هم الكتّاب الذين يحضّرون لهذا الفيلم؟ ومتى سيبصر النور؟
مجموعة من الكتّاب والضالعين في هذا المجال وسنعلن عنه فور جهوزه.
– هل سنعرف يوماً الحقيقة؟ أم ستبقى مجرد تكهنات ككل الجرائم التي عصفت بلبنان؟
بكلّ صراحة، لم يعد يهمني. أناسٌ قُتلت، وآخرون تشوّهت وجوههم، والبعض خسر أحبّاءه أو عائلته. ما أريده اليوم هو حقّ الناس المغدورة، اللبناني لم يعد يملك سوى الهواء، وضعوا أيديهم على أموالنا في المصارف ليقهرونا ويكبلونا ليتمكّنوا من خنقنا.
أفقرونا، هجّرونا، قتلونا، ذبحونا وخطفونا… نحن شعب مخطوف من جانب دولته.
فليفرجوا عن أموالنا في المصارف لنغادر من هذه البلاد.
– قيل إن فادي كان يجهّز نفسه للانتقال إلى دبي للتركيز على العمل هناك. ما حقيقة ذلك؟
كلا تلك كانت إشاعة طاولتني.
– هل دفعتك الجريمة إلى الانتقال من لبنان لتأمين الأمن والسلام لأولادك، أم على العكس زادت عزيمتك على البقاء لمحاسبة الفاعلين؟
لا يمكنني مغادرة البلاد، كافحت لأكثر من 15 عاماّ لتأسيس ما أنا عليه اليوم، من جهة ثانية لدي فريق عمل مؤلّف بأكثر من 200 موظف، لا يمكنني قطع رزقهم، ولكنني أعمل على تهجير عائلتي إلى أوروبا لأنني لا أريد أن يعيشوا الخوف الذي عشناه.
خُيّل إليَّ أن وقت الانفجار كان وقت خروج الأطفال من المدارس أو لحظة مرور حافلة مدرسية لكانت الفاجعة الأكبر. لذا لن أخاطر بحياة أولادي في وطن بيع شعبه بثلاثين من الفضة.
– هل سينتهي العام 2020 على خير؟
ليتنا نعيش حتى نهاية هذا العام. فمن لم يمت بالتفجير سيموت قهراً بذبحة قلبية من شدّة القهر والظلم الذي تمارسه دولتنا.
– تُردِّد مقولة: “نحن نعيش مرة واحدة فقط”. برأيك، كيف يجب أن نعيش في لبنان كمواطنين استنادًا إلى هذا القول؟
بانتظارنا 5 سنوات من العذاب، نحن في أسوأ ظروف مرّت في تاريخ هذا البلد، وكأننا في عقاب جماعي، نعم نعيش مرّة واحدة ولكن ليس بهذا القدر من الذلّ الذي يمارس علينا.
– بعد مرور شهر على وقوع الجريمة والحقيقة ما زالت مفقودة مع أرواح المغدورين ، هل يقول فادي: فليسامحكم الله، أو “الله ينتقم منكم”؟
_بل الله ينتقم منهم.
– هل تعتقد بأنك ستوثّق يومًا ما حقيقة ما جرى؟ أم إنهم سيبدعون في إخفاء ما اقترفت أيديهم؟
لا أعتقد بأننا سنشهد على الحقيقة، لم يعد لدي بصيص أمل لغد أفضل.
أسأل نفسي وأردّد: ما هذا المخفي وراء العنبر 12؟ عشنا أكبر ثالث انفجار في العالم ولم يقدم أي ضابط أو مسؤول استقالته من منصبه! ما هذه المسرحية التافهة التي يجبروننا على متابعتها؟
للأسف انتصر الشرّ هذه المرّة على أرضنا، يتمتّع المجرمون بقدرة شيطانية رهيبة، أطلب من الله معاقبتهم أشدّ العقاب.
في الواقع، لم يعد يهمني غير تأمين الأمن والأمان للشعب اللبناني الذي يستحقّ العيش بعزّ وكرامة.
– هل ما زال للفن مكانة في توجّهاتك اليوم أم أن لا مكان للفن في خضم هذه المأساة؟
لقد قتلوا الفرحة في داخلنا، أصبحنا نخجل من الابتسامة، ولكن رغم ذلك لا يمكنني الانهيار كوني مسؤولًا عن العائلات التي تعمل في شركتي لتحصيل مصدر رزقها.
وأحاول منحهم القليل من المعنويات لكي نتمكّن من العطاء، ولن أخفي عليك بأن معظمهم يسعى لتقديم طلبات الهجرة إلى مختلف البلدان.
لذا لا يمكنني الابتعاد عن الفن. وكما سبق وقلت في بداية حديثنا بأن يوم التفجير الاجرامي كنّا مع الفنانة الجزائرية “كاميليا ورد” نقوم بتصوير عددٍ من مشاهد الفيديو كليب لأغنيتها الجديدة، وما لا تعرفونه عن هذه الفنانة بأنها تتمتّع بحسٍّ انسانيٍّ أكثر من أكبر زعيم في بلادنا، لأنها بعد وقوع الانفجار تبرعت بمبلغ 30 مليون ليرة للمنكوبين، وأبقت الموضوع سرًّا، ولكنني علمت بالأمر من السائق الخاص الذي كان يرافقها وهو موظف في شركتي.
– هل بدّل 4 آب أحلام فادي حداد على الصعيد المهني؟
طبعًا، فادي اليوم مجرّد من الفرحة والسعادة ومسلوب الأمل، ولكن مهنياَ ما زلت
أحاول ترجمة حبي لهذا الوطن من خلال أعمالي، وقريباً سنقدّم أغنية بعنوان
“قومي اوقفي يا بيروت” مع المغنية ريم الشريف، من إنتاج “لايف ستايل ستوديوز” الأغنية ستبكي الحجر.
من جهة أخرى، نحن في صدد إنتاج أفلام ومسلسلات مع شركتي
Retina Filmsلكي نتمكّن من البقاء والاستمرار في هذه الحياة العسيرة.
– إن أردت الصراخ بأعلى صوتك عند أعلى قمة، ماذا ستقول؟
يا الله خلصنا من هذا العذاب.
– أمنيتك للمرحلة المقبلة؟
الله يرحم الشهداء ويصبّر عائلاتهم، وإنشاء الله منرجع للكنف العربي لأننا أصبحنا بلدًا منبوذًا من الجميع.
وكونوا على يقين بأن مدينتا الحلوة بيروت ستعود شامخة بقوّة سواعد شبابها، وستبقى عاصمة الجمال والإبداع والثقافة رغم أنف الجميع.
منال سعادة