وافق البرلمان الفرنسي في نهاية شهر كانون الأول 2011 على مشروع قانون يتضمن تجريم إنكار “وقوع عمليات إبادة” بحق الأرمن من قِبل العثمانيين في عام 1915.
لطالما اعتمدت العلاقات التركية-الفرنسية على عنصر ثالث خارج إطار المعادلة الثنائية في التقارب أو التباعد، التفاهم أو التخاصم بين البلدين، فالتحالف الذي تم بين العثمانيين في عهد سليمان القانوني والفرنسيين في عهد فرانسوا الأول كان سببه عداء الأخير لملك إسبانيا شارل الخامس، وقد استمرت العلاقات الجيدة هذه لأكثر من قرنين، وقد تخاصما فيما بعد بسبب احتلال نابليون لمصر.
وإن كان التقلب هو السمة العامة التي صبغت العلاقات الثنائية فيما بعد، فإنّ اختراقات مهمة لهذا النمط كانت تحصل بين الفترة والأخرى، فبعد انهيار الدولة العثمانية استولت فرنسا على أجزاء واسعة منها، ولم يحُل هذا دون تأثر النخب العلمانية التركية – التي أنشأت الدولة التركية الحديثة على أنقاض السلطنة العثمانية- بالفرنسيين، ويمكن إدراك هذا المعطَى اليوم من خلال العديد من المفردات الفرنسية في اللغة التركية الحديثة والتي حلَّت غالبًا محل نظيرتها العربية.
الاشتباك المتجدد
اعترفت فرنسا عام 2001 بوقوع عمليات “ابادة للأرمن كحقيقة تاريخية. و يعتبر ذلك بداية الانشقاق الثنائي في التاريخ الحديث، حيث ترافق مع وصول حزب العدالة و التنمية الى السلطة عام 2002 ومن حينها تبدّلت المعطيات لدى تركيا في علاقاتها مع دول الاقليمية والدولية.
ففي عهد أردوغان رئيسا للجكومة في الفترة من 2003 وحتى 2014، تحوّلت تركيا إلى دولة صناعية ومصدّرة كما أبقت وزارته معدلات التضخم تحت السيطرة بعدما شهدت ارتفاعاً أعلى 100% خلال فترة التسعينيات.
ونما حجم الناتج المحلي الإجمالي لتركيا من 311.823 مليار دولار في عام 2003 ليصل إلى 851.102 مليار دولار في عام 2017 في البلد التي يقدر عدد سكانها بنحو 80.745 مليون نسمة، وفقاً لإحصاءات البنك الدولي.
من خلال ذلك تسارع صعود النفوذ التركي الاقليمي والدولي والسياسي والاقتصادي مما أدّى إلى تضارب المصالح بين البلدين. ممّا أدّى إلى الاشتباك في محاور مختلفة حول العالم.
المحور الأوروبي
تُعد فرنسا فيه قائدة التيار المتشدد المعارض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ورفض رؤسائها المتعاقبين بشدة الدخول التركي إلى الاتحاد تحت اسباب أو ذرائع مختلفة منها دينية ومنها اتنية ومنها حقوق انسان ومنها اقتصادية وغيرها.
المحور الإفريقي
شهد النفوذ التركي تصاعدًا هائلاً في إفريقيا منذ العام 2005 وتحديدًا خلال السنوات القليلة الماضية، إذ ارتفع عدد السفارات على سبيل المثال من 12 سفارة بداية عام 2009 إلى 35 حاليًا، علمًا أنّ عدد السفارات التركية في إفريقيا عام 2002 بلغ بضعة سفارات فقط لا غير. أما التبادل التجاري مع دول القارة فقد ارتفع من حوالي 5 مليارات عام 2003 إلى حوالي 186 مليار عام 2019، وقد أثار ذلك حفيظة الفرنسيين الذي يملكون نفوذًا واسعًا في إفريقيا لاسيّما في مستعمراتهم السابقة.
المحور العربي
وفيه يبرز نوع من الصراع على الدور والتأثير يختلط فيه التاريخ (السلطنة العثمانية وفرنسا المستعمرة) مع الحاضر (الجمهورية التركية والجمهورية الفرنسية) في منطقة كانت في وقت من الأوقات مكوّنًا أساسيًا للإمبراطورية العثمانية، وتعرضت أجزاء واسعة منها بعد انهيارها للاستعمار الفرنسي.
ومع الصعود الذي رافق العلاقات التركية-العربية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا خلال هذه الفترة وتحديدًا 2007-2010، شعر الفرنسيون بشيء من المزاحمة مترافقًا مع تراجع دورهم وتأثيرهم.
الثورات العربية: حصل تطور جديد بداية العام 2011 تمثّل باندلاع الثورات العربية، الأمر الذي زاد من التعقيد في العلاقات التركية-الفرنسية وأضفى عليها مزيدًا من التشنج. وكان لافتًا تقدّم الموقف الفرنسي كثيرًا على العديد من الدول الأوروبية وحتى على واشنطن في دعم الثورات العربية، وأحد المعطيات المفسِّرة لذلك هو حرص فرنسا على حجز موقع جيّد لها على الصعيد الدولي والإقليمي في التحولات الجيو-سياسية الجارية، وذلك لإعادة تقديم الدور الفرنسي الإقليمي والدولي بشكل جديد، وكذلك محاولة التأثير على الأنظمة الوليدة وعلى توجهاتها وسياساتها في المنطقة.
وفي المقابل حاول التركي دخول الخط العربي من خلال نقاط مختلفة منها القضية الفلسطينية و غياب دور العربي جراء نكسات مختلفة، والنمو الاقتصادي لتركيا وحاجة الشعوب العربية وخاصة السنية منها إلى القيادة.
وآخرها التوتر بين الطرفين بخصوص الملف اللّيبي حيث كان على وشك أن يحدث توتر عسكري مباشر، عندما ذهبت الفرقاطة الفرنسية كوربيه لتفتيش سفينة شحن تركية ترفع علم تنزانيا للتحقق مما إذا كانت تقوم بتهريب أسلحة إلى ليبيا.
وهذا الصراع في ليبيا قد يصل شظاياه إلى المنطقة المغاربية حيث كل دولة تسعى إلى تنامي نفوذها في الدول المجاورة لليبيا.
فاليوم الصراع بين الطرفين على القيادة والثروات في مدن بحر المتوسط منها ليبيا ولبنان والعراق وسوريا، وبالتالي فرنسا نسجت تحالفات مع دول عربية لمواجهة التمدد التركي مثل مصر والامارات وفي المقابل تستثمر في نقاط الضعف لدى تركيا ومنها الملف الكردي حيث تجري اتفقات مع العراق، إضافة إلى تشابك مصالح مع الدولة السورية بخصوص الخصم المشترك تركيا.
وفي المقابل تستثمر تركيا بزعامة السلطنة العثمانية وخصوصا في جل وجود خيبات لدى الشعوب العربي والفراغ الذي أنتجته السلطة السياسية العربية إضافة إلى الاستثمار بالفوضى الموجودة في المنطقة، إضافة إلى ملف الهجرة غير الشرعية.
أضف إلى ذلك هناك خيبات لدى الدولتين على سبيل المثال فرنسا لم تحصل على دعم الاتحاد الأوروبي في مواجهتها مع تركيا وخصوصا في المواجهة الليبية وتركيا ينحسر دورها الاقتصادي بفعل تأثرها بجائحة كورونا مما يؤدّي إلى ضغوط داخلية على الساسة الأتراك.
المرحلة المقبلة ستكون حساسة على الطرفين والجميع يحاول أن يكسب في الوقت الضائع إلى حين حدوث تسوية أميركية-إيرانية التي قد تحدث خرقًا بهذا التوتر بين الطرفين وخاصة أن لا رغبة بالمواجهة المباشرة ممّا سيؤدي إلى حروب باردة طويلة الأمد ويتأثر بها دول عديدة في المنطقة.
شادي نشابة