جائحة كورونا تفضح المستور في المنظمات الدولية
نشأت المنظمات الدولية تلبية لحاجة تنظيم شؤون البشرية وحلّ نزاعات الأمم في إطارٍ تحكيمي وتشاوري بعيد عن الاقتتال، بعد أن اختبرت “الدول العظمى” فداحة ما آلت إليه صراعاتها وتضارب مصالحها، في سباقها على الأسواق وعلى الثروات الطبيعية، من هولِ كوارثٍ كشفت فظاعتها الحربين العالميتين الأولى والثانية. ما هي هذه المنظمات، ماهي بنيتها، وماهي أيديولوجيتها الموجّهة لتعاملها؟ حول هذا الموضوع كان لنا هذا الحوار مع الخبير المالي والاقتصادي الأستاذ المحاضر في الجامعة اليسوعية الدكتور بشير المر.
المنظمات الدولية، حاجة تنظيمية لأهداف توسعية. هل توافق على هذا التوصيف ؟
عندما لم تصل “عصبة الأمم” إلى تحقيق الهدف من وجودها بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك لضعف إطارها التنظيمي وتفلّت أعضائها من إلتزاماتهم بأهداف وجودها، في سباقهم على التسلّح وتوسيع دائرة هيمنتهم على مستعمرات كضمانة لأمنهم الإستراتيجي الخارجي التمويني، السوقي والعسكري، كان لا بدّ للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية من إعادة النظر بالإطار الوظيفي للمنظمات الدولية وشمولية اهتماماتها، فاعتمدت “الأمم المتحدة” ومجموعة المنظمات الدولية الرديفة المتخصصة بشؤون الأمن والتنمية والمال والتجارة والعمل والغذاء والصحة والبيئة وغيرها من الشؤون الحيوية (حوالي 40 منظمة)، إطاراً لتنسيق مصالحها دون الإحتكام إلى الخيار العسكري لتثبيت نفوذها وأمنها الإستراتيجي، إدراكاً منها لمخاطر النزوع إلى السلاح النووي التدميري الشامل المتاح منذ حينه.
بالمقابل، نجحت المنظمات الدولية في أن تشكّل مرجعية دولية كلٌّ في مجال اختصاصها، وفي إشادة صروح وهيكليات مشهوداً لها بضخامة حجمها المؤسساتي والمالي والتوظيفي وبتقدُّمِها العلمي والتكنولوجي، إلى صياغةٍ مُحَكَّمَة للنصوص الدولية، أهمها شرعة حقوق الإنسان والإعلانات الأممية. إنما ما لم تفلح به هو بقاءها على أنظمتها وآلياتها الضامنة لهيمنة الدول العظمى المؤسِّسة لها. فبقيت أداةً طيّعة لتلميع هيبة هذه الدول وغطاءً دولياً لإدارة حروبها الباردة كمرحلة توازن الرعب، وحروبها المُعلنة تحت البند السابع كمرحلة آحادية القطب. فشكلّت ستاراً لمصالح الدول العظمى في تحريك الأزمات بين وداخل الكيانات القابعة تحت هيمنتها، ووسيلة شرعية لفرض شروطها وإملاءاتها الاقتصادية والمالية على الأمم الضعيفة وكذلك للتعتيم على الإقترافات بحق شعوبها وثرواتها (الآثار الحضارية والذهب والنفط في الشرق الأوسط، والموارد الطبيعية الخام في أفريقيا).
إذا أردنا أن نقرأ في وضع هذه المؤسسات اليوم في ظلّ وباء كورونا، هل نستطيع القول إنّ هذه المنظمات هي اليوم على مَشرَحَة جائحة كورونا؟
جاءت جائحة كورونا اليوم لتكشف النقاب عن مزيد من الإخفاقات، ولتلقي الضوء على ما كان بحكم المستور في الماضي القريب، ألا وهو عقم المنظمات الدولية وفشلها في التعاطي مع الأزمات الإنسانية، الصحيّة منها والاقتصادية والاجتماعية. فإن كانت كورونا صناعية المنشأ، سلاحاً جرثومياً فتاكاً وبديلاً عن أسلحة الدمار الشامل، فقد عكست إخفاق المنظمات الدولية كإطارٍ سليم لحلّ النزاعات بين الدول الأعضاء بديلاً عن الركون إلى القوة والسباق في التسلح لتثبيت مكانتها وهيمنتها الاقتصادية، السياسية والعسكرية. وإن كانت كورونا طبيعية المنشأ، فقد كشفت غياباً فاضحاً للمنظمات الدولية المعنية وتخبطاً مريباً لمؤسساتها في إصدار المعلومات والإرشادات المتضاربة. كما وفضحت كورونا فقدان هذه المنظمات للأدوات اللوجستية، بل أيضاً لآليات تنسيق جهود وتبادل خبرات يُفاد منها في مواجهة هذه الجائحة. فبفعل الخلل في تقدير كورونا كوباء، أوقعت منظمة الصحة العالمية الدول كافةً في معضلة إهمالها تحضيرات استباقية لأجهزتها وطواقمها الصحية وتأخرها في اتخاذها إجراءات وترتيبات صارمة للوقاية من انتشارها. فاقتصر حضور هذه المنظمات على إصدار الإحصائيات والتقارير، خاصةً لجهة الانعكاسات الاقتصادية والمالية والتجارية لأزمة كورونا، وقد فاقت تداعياتها بتوقّعات صندوق النقد الدولي أزمة الكساد الكبير أبّان الحرب العالمية الثانية. والملفت أكثر هو تَفلُّت أهم الدول الأعضاء من تمويلها في أكثر اللحظات حرجاً وحاجةً لوجودها لقناعتها بعدم أهليتها وفعاليتها، ذلك في رجوع لافتٍ إلى المؤسسات الوطنية لاجترار الحلول أو إلى طلب المساعدة من دول صديقة وغيرصديقة.
وهل هذا يعني أنّه بات على هذه المنظمات مواجهة تحديات كبيرة كتحدي المتغيرات الدولية ؟
حضرت جائحة كورونا على خلفية متغيرات دولية متسارعة وتبدُّل في موازين القوى إثر صعود الدول الناشئة، وفرض وجودها من جديد على المجتمع الدولي في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والتنظيمية، في محاولةٍ منها للعب دور أساس في المسارات الجيوسياسية والإقليمية. على ضوء هذه المستجدات تخضع اليوم المنظمات الدولية لامتحان خطير لدورها وأنظمتها وأهدافها إن لم يكن لتماسُكها تماماً كما قبل الحربين العالميتين. فهل ستنجح هذه المنظمات في أن تنتج صيغاً جديدة للتعامل ما بين الدول الأعضاء تأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات والمقتضيات الدولية الراهنة، وتقدم أجوبة ملائمة للإشكاليات الدولية والإنسانية المطروحة على بساط البحث؟ وهل ستتحلّى الدول العظمى بالجرأة اللازمة للقيام بمراجعة جديّة وموضوعية باتت ملحة للأطر والمفاهيم التي بنيت على أساسها هذه المنظمات؟ إذ أضحت هذه المنظمات عينها ضحية إخفاقاتها المتتالية في تقديم الحلول الصائبة لأزمات دولية عديدة قديمة وراهنة.
ماهو المطلوب اليوم من المنظمات الدولية للمحافظة على دورها كحاجة إنساتية تعاضدية؟
الحاجة مطروحة اليوم إلى مراجعة المبادئ والمفاهيم التي نشأت وعملت على أساسها المنظمات الدولية، المبنية سابقاً على نُصرة الدول الكبرى وتثبيت هيمنتها في إطار نظام عالمي تتحكّم به منظومة مالية ذات عقيدة ليبرالية جانحة تُسَخِّر الفرد والبيئة والأمم في سبيل تكريس مطامعها وأطماعها. ليس المطلوب تبديلاً للمنظمات كما في السابق، إنّما المطلوب إعادة النظر بالمُثُل والرؤى والأهداف المتوخّاة من وجود هذه المنظمات. فإن نَشَأت في الماضي لتلافي المواجهات العسكرية، فهي اليوم حاجة إنسانية تعاضدية أكثر منها أمنية، سياسية أو مالية. فهي حاجة ليس فقط لإرساء العدالة بين الأمم في صراعها الوجودي إنّما لإرساء العدالة الاجتماعية داخل المجتمعات الغنية قبل الفقيرة منها. هي حاجة إنسانية لإزالة الغطرسة الدولية واستنزاف وإذلال شعوب بأكملها بذريعة الأمن الوقائي والتمويني والغذائي والعسكري.
فأزمة كورونا أثبتت في مواضِع عديدة تفوّق الدول الفقيرة والناشئة على الدول العظمى، أقلّها في مناعتها ومواجهتها الوباء. كما وفضحت هزالة أجهزة الأخيرة وعقم سياساتها التسابقية على الثروات البشرية والطبيعية، وكذلك ركاكة ترساناتها وتسلّحها في وجه وباء طبيعي أو من صنع إنساني. فنظرية التسابق على التقدّم وعلى التسلّح الاستراتيجي فقدت وهجها، لا بل أثبتت فشلها في تحقيق العدالة والرغد والرفاهية داخل وبين المجتمعات على اختلافها. واليوم أضحى البرهان أمام شعوب الدول العظمى قبل غيرها أنّ الترسانات العسكرية لم تحمها من الموت مثلما فعلت الكمامة الواقية، وقد كاد التسابق عليها يشكل خطر إشكالاتٍ وحروبٍ غير محسوبة في توقعات الأجهزة الأمنية العاتية. فعلى الشعوب قاطبةً نزع الستار ورفع الصوت بوجه النظام العالمي القائم الذي فشل في تحقيق مصالحها الحقيقية ولضحد مخاطر المنظومة المالية المتحكمة بحياتها وبثرواتها وبمصيرها، باستئثارها بالأسواق المالية والإستهلاكية، المدنية والعسكرية، والآن الصحية.
نبيل المقدم