بسبب الأزمة… قصور الجنوب خالية إلّا من نواطيرها
الأزمة الاقتصادية ومعها جائحة كورونا، لم تشلّ الحركة الاقتصادية فحسب، بل ساهمت في منع المغتربين من العودة إلى بلداتهم، ومنازلهم المنتشرة على طول الحدود مع فلسطين وفي جميع القرى والبلدات الجنوبية. التي هاجر أكثر من نصف أبنائها، بسبب الاحتلال، إلى دول العالم المختلفة، لكن بقي المغتربون يحلمون بالعودة، ولم يفكروا يومًا بأن تتحوّل هجرتهم إلى هجرة دائمة، لذلك بنوا منازلهم الفخمة في “مسقط رأسهم”، وأرسلوا مدخراتهم إلى البنوك اللّبنانية. سنوات طويلة من الهجرة، والأمل بالعودة، بانتظار الاستقرار الأمني ومعه الاستقرار الاقتصادي. لكنّ الأزمة المذكورة، حالت دون ذلك، “قضت على مدخراتنا، وكذلك منعتنا من العودة إلى منازلنا التي بنيناها من عرق الجبين”. على طول الحدود مع فلسطين المحتلّة تبرز القصور والأبنية السكنية الجميلة، تبرز أشكالًا من الفنون المعمارية المختلفة، أحدها يعود إلى حسين حجازي، الذي ترك بلدته غصبًا عنه، كما تقول والدته، بسبب الاحتلال الاسرائيلي الذي عمل على تهجير المئات من الأهالي.
“أكثر من ثلاثين سنة قضاها حسين، كغيره من أبناء المنطقة، في عالم الاغتراب، متنقلًا من بلد إلى آخر إلى أن استطاع تحقيق النجاح في عالم التجارة، كلّ ذلك بهدف العودة إلى بلده حاملًا رأسمال يكفيه وأولاده من العوز والحاجة” تقول أم حسين، وتشير إلى أنّ ” قرار حسين بالعودة جعله يرسل الأموال لبناء قصره الكبير، ويدّخر الجزء الآخر في البنوك اللّبنانية”. لكنّ الأزمة الحالية قضت على كل شيء، تمسح أم حسين دموعها، وتشير بأصبعها إلى قصر ولدها الفارغ من أصحابه، “القصر ينتظر حسين وعائلته، لكنّ الأزمة الحالية منعته من العودة، فالأموال التي أرسلها إلى البنوك، لم تعد موجودة، وعليه أن يبدأ العمل من جديد”.
أما المغتربين في دول الخليج العربي وبعض الدول الأخرى، فيمنع عليهم ترك البلاد التي يعملون فيها، والاّ لا يستطيعون العودة، ففي بلدة شقراء (بنت جبيل) عشرات المنازل والقصور الفخمة، التي كانت تنتظر أصحابها كل صيف، وهي اليوم فارغة، يقول أبو حسين ذيب (والد أحد المغتربين). “مئات الشابا هاجروا من البلدة، وعدد كبير منهم في الكويت والصين وأفريقيا، كانوا جميعًا يأتون كل صيف إلى منازلهم التي بنوها من عرق جبينهم، رغم كل الأحداث المأساوية التي مرت فيها البلدة خلال فترة الاحتلال والحروب الماضية، كانوا يتفقدون الجميع، ويمنحون الأمل للميقيمين، ويرسلون الأموال لبناء المنزل ومساعدة ذويهم، ولكن في العامين الأخيرين لم يعد باستطاعتهم العودة، لأنّ بعض دول الاغتراب تلزم كل من يغادر منها عدم العودة مجدّدًا إلى حين الانتهاء من أزمة كورونا، أمّا الأموال فلم يعد باستطاعة المغتربين إرسالها إلى البنوك، وباتوا يفضلون الاحتفاظ بها بعد أن فقدوا كل مدخراتهم في لبنان”.
في بلدة مركبا عشرات القصور الفارغة الفخمة، التي بنيت بعد التحرير، والتي كان يقصدها أصحابها في فصل الصيف، هي اليوم بحسب محمد مسلماني (61 سنة) “لا تنفع” لأنه “كان على المعنيين أن يؤمنوا فرص الصمود للأهالي من خلال بناء المعامل ودعم الصناعات المحلية، للحفاظ على ما تبقى من المقيمين في البلدة”. وعندما قرّر عبدالله فرحات، بناء قصره الجديد، قبل أن تتراجع أحواله المادية، لم يكن يفكر سوى “في بناء بيت جميل يضاهي في جماله قصور أبناء بلدته، وهو يعلم أنّه لن يسكنه إلاّ لأيام قليلة كل عام، لكنّه اليوم وبعد أن “أعاد حساب الكلفة المالية التي تكبّدها على بنائه، اكتشف أنّ هذه الكلفة تجعله يقيم في أفخم أوتيلات لبنان طيلة أيام حياته المتبقية، وتؤمن العيش الرغيد لأولاده خلال سنوات طويلة”. يجزم المقيمون، اليوم، من أبناء القرى والبلدات الجنوبية، بأهمية الدور الذي لعبه المغتربون، في تحريك العجلة الاقتصادية، وزيادة فرص العمل، تحديدًا في قطاع البناء. فرص عمل تتوقف أو تنشط، بحسب الأوضاع الأمنية والسياسية. مئات القصور الفخمة التي بناها المغتربون والنازحون في قراهم والتي تسحر الأعين بجمالها، كما تدل على الأموال الطائلة التي دفعت على بنائها. ولكن اللّافت أنّها فارغة من أصحابها، ولا يسكنها الاّ “النواطير” من الجنسيات الأجنبية، “نواطير” يسرحون مع أولادهم في باحات هذه القصور وحدائقها الجميلة، ما يشير إلى أنّ مئات الملايين من الدولارات باتت مجمّدة في أماكن هي أشبه بلوحات فنية جامدة، يشاهدها أصحابها لأيّام قليلة، تنتظر من يسكنها.
داني الأمين