ميديا وفنون

“عشرين عشرين” مباراة درامية كل شخوصها أبطال

لا شيء يقع سهواً. كل نَفَس مدروس وكل حركة لها دلالة. الجو محتدم في الصورة الصفراء. قضية “عشرين عشرين” محكمة الأوصال. النص رشيق، الكلام قليل والبلاغة مرتفعة  والإطار مشتعل والقصة مغزولة بخيال مبدع وشفاف. الاخراج عالٍ والجاذبية متوهّجة والممثلون مبدعون ومحترفون. والإنتاج الذي يقف خلفه الصبّاح يقدم عملاً مدروسُ فيه أقل تفصيل.

هذا التزاوج بين المكر والطيبة. هذا الدوران بين ما هو ظاهر وما هو مخفي. يجعل من هذا العمل قطعة مخملية متماوجة الألوان تشد وتبهر، تقنط وتفرح. وتأخذ المشاهد في جولة متقطعة الأنفاس والتشويق في أعلى زفراته.
هذا الحي الشعبي الذي يحضتن ناسه لا يبدو فيه فريق العمل ممثلاً بل حقيقة. يشبه كل الاحياء الفقيرة في العالم. حيث الرذيلة  والفضيلة والعوز  والكرم والإتجار بالمخدرات والممنوع وحيث الحب والعطاء والطيبة.


العمل مشدود الأواصر وكأنه فيلم أكثر منه مسلسل، فيه روح سينمائية بإيقاعه السريع ومختمر بكل مكوناته لا رخاوة فيه ولا حشو، هو فلذة واحدة تشد المشاهد من اللقطة الأولى وحتى خآر نفس.

فإطلالة الفنان رامي عياش المقتضبة في أول حلقة كانت كافية لتشعل هشيم العمل المتّقد، حضوره لم يكن كفنان مغنٍ يزيد إلى العمل إبهاراً لا بل العمل أضفى لمكانته إبهاراً جديداً خرج منه بطلاً خلال دقائق قليلة.

نادين نجيم “حياة عبدالله “بكدماتها وتعابيرها ولباسها وقرويتها كواحدة من الحارات الفقيرة، تأخذنا نحو عبثية هذه الحياة وظلمها.
وفي المقلب الآخر تظهر لنا بمكانة وسطوة النقيب” سما”، هذا الدور المزدوج الذي قدمته بقوة مضيفة لمكانتها مكانة جديدة أبعد وأهم من كل دور قدمته قبل ذلك. إنها تزداد صعوداً كممثلة قادرة وقديرة، عندها من العصب المشدود والاتقاد ما يكفي أن يرفعها الى حدود الممثلة المخضرمة. نادين نجيم تخلت عن جمال يصنفها ولبست جمالاً واحداً هو الفن، وهذا يعطيها ميدالية لا يبهت لونها ولا تشيخ.

المكر الموجود في العمل والتفاصيل المبطنة هي قوة الجذب الأساسية وهي خصوصيته البراقة. وكأنه كتب كفسيفساء فيها قراءات متعددة الألوان. فعلاقة حياة بالحجة ضحى “رندة كعدي” وهذا التناوب بالمشاعر بين المكر والطيبة وبين المحبة والاستغلال، يأخذ المشاهد الى مطارح بعيدة  في التعاطف مع اصحاب الأفئدة الصادقة، حتى وأن أخطأوا.

وكذلك “رسمية “كارمن لبس صاحبة الشامة المقيتة، امرأة تبدو بلا قلب وبلا ملامح، تعطي من عمق جذرها حياة لهذا الدور الصعب المضطرب بين العمل بالممنوع وحياة الدهاليز والعتمة،  وبين حبها الدامع للحوت “فادي ابراهيم” حيث تتفجر عاطفتها كمرأة لها قلب طفل وحنان مدفون في عمق الروح النائمة. رسمية هنا امرأة بلا قلب وبلا مشاعر، لكنها تغفو على دمع كل مساء. استطاعت كارمن مرة جديدة أن تكون الرقم الصعب والمتجدد في عالم الدراما.

وكذلك قصي خولي  “صافي ” المتيقظ دوماً المشكك بكل من حوله المفتح في عمق العتمة، سيعيش هذا التخبط بين تقاليده كمسؤول عن عائلته وكرجل شهم وكريم وصاحب كلمة في العشوائيات، وبين  عمله كتاجر مخدرات  بلا قلب وبلا ضمير.

هذا التناقض في مكونات الشخصيات. هذا المد والجزر في تفاصيل روحية الأدوار، تأخذ المشاهد في رحلة توتر وشد عصب قلما نجدها في مسلسلات أخرى. إنه عمل تشويقي بامتياز. أنه كشف لروحية الناس المزدوجة بين الخير والشر. بين الواجب الذي ينادينا وبين القلب الذي ننصاع له غصباً عنا. وخولي دخل الدور ولبسه  وخرج بطلاً كأنه واحد من هذه العشوائيات.

فيليب أسمر أراد أن يغمس كل هذا الأداء الرفيع لجميع الابطال في اللون الأصفر. هذا اللون قد ينفع في ماخور المخدرات وفي الأقبية الصفراء حيث تحاك المخططات الشيطانية، لكن أن يغمس البيوت والملامح والوجوه بهذا اللون جعلنا نفقد الكثير من جمالية الوضوح، وجمالية الأداء. نشد نظرنا لنقطف آخر لمحة لكارمن لبس، وآخر لفتة لرندا كعدي، وآخر كدمة لنادين نجيم وآخر نبرة لقصي خولي إلا إننا لم ننجح وفاتنا الكثير في هذا اللون الكالح .

“عشرين عشرين” للكاتبين المبدعين نادين جابر وبلال شحادات، مباراة درامية فيها شد وتسديد أهداف، محاكة بقطب مخفية خالية من الحشو ومتّقنة كأنها تخريم يدوي مطرّز على قماشة مخملية.

كمال طنوس

كاتبة وصحافية لبنانية لاكثر من 25 عاماً في العديد من الصحف العربية كمجلة اليقظة الكويتية وجريدة الاهرام وجريدة الاتحاد وزهرة الخليج .كما تعد برامج تلفزيونية وتحمل دبلوما في الاعلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى