منوعات

انهيار العملة الوطنية بين النموذج اللبناني والنموذجين التركي والكوري

لعبة الدولار بين السياسة والمضاربة

تتعدّد التحليلات والمقاربات في تفسير وتحليل التدهور المستمر لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار. فمنهم من يُرجعه إلى المصارف وسحبها للسيولة وخاصة عند بعض الاستحقاقات، منها مثلا تطبيق تعميم مصرف لبنان 154؛ وآخرون يعتبرون المضاربات من قبل الصرافين وبعض عامة الناس هم السبب في ذلك بحيث تلعب بعض التطبيقات المشبوهة هذا الدور.

أما البعض الآخر، فيربط هذا التدهور بسعي مصرف لبنان الدؤوب إلى سحب الدولارات المخبأة في المنازل وضخها في القطاع المصرفي، بعد أن جفت بشكل شبه كامل المصادر الخارجية للتمويل، ما عدا التدفقات التي يحصل عليها القطاع العائلي من أبنائهم وذويهم في الخارج والتي تُستخدم لأغراض استهلاكية ومدخرات، أو مساعدات تدفعها بعض المنظمات الأجنبية، والتي هي أيضاً خارج قنوات القطاع المصرفي.

ولكننا نؤكد بشكل قاطع لا يحتمل الشك أو التأويل،على أن الدولار في لبنان هو سياسي بامتياز أولاً وأخيراً، وباقي الأسباب هي تفصيل في المشهد العام لتدهور الليرة اللبنانية؛ والدليل على ذلك، كلّما تأزم المشهد السياسي انعكس على سعر الصرف والعكس صحيح ومثال، عند تكليف الرئيس المكلّف تشكيل حكومة انخفض مباشرة سعر صرف الدولار مقابل الليرة ما لا يقل عن ألفي ليرة.

المضاربات: سوق صغير

مضى أكثر من سنة ونصف على أزمة سعر الصرف، تداخلت فيها عدة عوامل ساهمت في ازدياد حالة الانهيار لليرة اللبنانية، منها المضاربات في سوق الصرف المتفلت، مستغلة الإنقسام السياسي الحاد في البلاد وشُحّ الدولار القادم إلى الداخل اللبناني مع استنزاف كبير في احتياطي مصرف لبنان من الدولارات بسبب سياسة دعم المواد الأساسية. وفي مسعى للجم التدهور في سعر الليرة، اتخذت السلطات المعنية قراراً بمكافحة عمليات المضاربات وتم تصوير الموضوع على أنه الحل السحري لتحقيق الهدف المنشود.

فيما السوق الموازية التي تحصل فيها عمليات المضاربة هي سوق محدودة ونسبة مساهمتها في سوق القطع ضئيلة لا تزيد عن 9% من حجم السوق. وقد اختلفت تقديرات السيولة المتداولة في السوق الموازية بين 7 إلى 15 مليون دولار أي حوالي 45 مليون دولار شهرياً كأقصى حد، في حين أن الحد الأدنى للحاجة إلى الدولار من أجل الدعم تبدأ من 512.5 مليون دولار شهرياً بمعدل وسطي.

وما يمارسه الصرافين سواء الشرعيين أو غير الشرعيين يزيد من سواد السوق الموازية حيث يتوارى الصرافون والمضاربون عن الأنظار بدل أن يكونوا في العلن وتحت سيطرة السلطات المختصة ويزداد الضغط بذلك على سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

المضاربات: ثقافة وأخلاقيات

المضاربة على العملة ليست حديثة العهد في أسواق القطع، وهي تعني شراء العملة بهدف إعادة بيعها لسعر أعلى من أجل تحقيق ربح سريع وهي تنطوي على مخاطر ومجازفة، وتحمل في أغلب الأحيان في طياتها أهداف سياسية تدخل في باب الابتزاز والضغط السياسي. إنّ أصل فعل المضاربة في العملة الوطنية هو  فعل غير أخلاقي يستغل الأزمات وحالة الفوضى لتحقيق أرباح شخصية على حساب المصلحة العامة والوطنية، وهي مقياس لحجم الانتماء الوطني، بل هي من الأدوات لتنفيذ أجندات خارجية بأيدي داخلية سواء عن قصد أو غير قصد. وما يحزّ في النفس هذا المستوى المتدني من بعض المواطنين اللبنانيين، وما أكثرهم في الدخول في لعبة المضاربات دون أي رادع وطني أو أخلاقي، طاعنين في صدر العملة الوطنية من حيث يدرون أو لا يدرون.

نموذجان يُحتذى بهما: التركي والكوري

ما أحوجنا في ظل هذه الأزمة المستعصية إلى الإقتداء والتمثّل في نموذجين لشعبين تعرّضت بلادهما لمضاربات وأزمات اقتصادية، فكانا مثالاً يُحتذى بهما في مجابهة الأزمة: كوريا الجنوبية وتركيا.

في العام 1997 عصفت أزمة اقتصادية بالنمور الآسيوية الستة ضمن لعبة الأمم، فاكتوت كوريا الجنوبية بنارها واكتوى أكثر من مليون كوري بنار البطالة ووقفت كوريا الجنوبية على حافة الإفلاس والانهيار. عندها سارعت الحكومة في الطلب من المواطنين للمساعدة في مواجهة الأزمة، فتداعى المواطنون ودون تردد ضمن حملات شعبية ضخمة في تقديم كل ما يملكون من غالٍ ونفيس من ذهب وغيره، وفي غضون يومين تم جمع 10 أطنان من الذهب والمجوهرات وخلال أشهر جُمع حوالي 227 طن من الذهب.

وبتضحيات غير مسبوقة من الشعب الكوري تمكنت الحكومة من جمع حوالي 20 مليار دولار مما ساهم في خروج كوريا الجنوبية من أزمتها وتجنّبها الانهيار.

وها هي تركيا في العام الماضي وعند حدوث انهيار في الليرة التركية، قام الشعب التركي وبمبادرة ذاتية ببيع الدولارات التي في حوزتهم من أجل زيادة عرض الدولار في سوق القطع والحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة التركية.

هذه الذهنية والثقافة الاقتصادية هي التي ساعدت تركيا على إخراجها من أزمتها المستعصية والتي تتشابه في الكثير من تفاصيلها بالأزمة اللبناني، ودون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.

هذه الثقافة الوطنية هي التي نحتاج إليها في ثقافتنا الاقتصادية لكي نخرج من أزماتنا، ولكنها تتطلب وجود حكام قدوة مخلصين لوطنهم يبدؤون هم بالتضحيات بمالهم وأنفسهم وأبنائهم بدل سرقة ونهب المال العام دون أي حسّ إنساني و ضمير وطني.

  د.أيمن عمر

 

أيمن عمر

كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية محاضر في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية له العديد من الأبحاث والمؤلفا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى