صلاحيات المحكمة العسكريّة في منظور الحقوقيين
منذ فترة وصلاحيّات المحكمة العسكرية في لبنان موضع نقاش بين السياسيّين والحقوقيّين المهتمّين بقضايا حقوق الإنسان، خاصة لجهة إصدار قانون بوجوب إلغاء القضاء العسكريّ وحصره في القضايا المسلكية والتأديبية للعسكريين، دون أن يشمل المدنيين، على أن تتألّف المحاكم العسكرية من قضاة عدليين وليس من ضباط عسكريّين.
في مجال القضاء العسكريّ، ما زال القانون يتيح محاكمة المدنيّين أمام المحاكم العسكريّة التي لا تتمتّع بالضمانات القضائيّة اللازمة، ولا تعلّل قراراتها، الأمر الذي يجعلها خارج مفهوم الرقابة القانونيّة على عمل القضاء.
التشديد على الاختصاص
يرى رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي “شكري صادر” أنّ “المحكمة العسكرية هي محكمة استثنائيّة لها قوانينها وأنظمتها. ويقول لـ “أحوال”: إنّ مهمتها حصراً ملاحقة الأشخاص من مدنيّين وعسكريّين متّهمين بارتكاب الجرائم المخلّة بالواجب والشرف العسكريّ والجرائم التي تمسّ بأمن الدولة الداخليّ والخارجيّ، كالخيانة والتجسّس أو الصلات غير المشروعة مع العدو. وهي من الأمور التي تتطلّب إجراءات سريعة ولا تحتمل التأجيل. لذا من الطبيعيّ أن تكون هناك محكمة عسكرية للنظر في مثل هذه الحالات.
ويردف، “لو تم إحالة الإرهابيّين الذين أقدموا على قتل عسكريّين في أحداث نهر البارد وأحداث الضنية إلى المحكمة العسكريّة، لما كانت محاكمتهم تأخرت حتى اليوم؛ ولما كنا سمعنا دعوات لأن يشملهم قانون العفو العام الذي يجري الحديث عنه. ولكن الذي حدث أنّه تمت إحالتهم إلى القضاء العدلي، وهم ما زالوا موقوفين حتى اليوم من دون محاكمة”.
القضيّة سياسيّة
ويكشف القاضي عن أنّ أسباب سياسية كانت وراء إحالة موقوفي الضنيّة إلى المجلس العدلي بدلاً من المحكمة العسكريّة. ويقول: “كنت رئيساً لهيئة التشريع والاستشارات، عندما أرسل بطلبي وزير العدل آنذاك شارل رزق، وأخبرني أنّه ستتم إحالة المتّهمين في أحداث الضنيّة إلى المجلس العدليّ. فاقترحت عليه إحالتهم إلى المحكمة العسكريّة، باعتبار أنّ الجرم الذي ارتكبوه من صلب اختصاصها”. وقلت له: المجلس العدليّ هو مقبرة الدعاوى. ففي حين أنّه لو تمّت إحالتهم إلى المحكمة العسكريّة، فإنّ الأحكام ستصدر بسرعة، وبفترة لن تتجاوز الستة أشهر. فأجاب: “برافو عليك، شفت كيف القضية هي قضيّة سياسيّة”.
ويضيف صادر، “هذا من حيث المبدأ، لكن الذي يحصل في لبنان هو أنّ المحاكم العسكريّة تتجاوز صلاحياتها لتصدر أحكاماً في قضايا نزاعات بين مدنيّين وعسكريّين، فيما هي من صلب اختصاص القضاء العدليّ. كالخلاف مثلاً على قضايا ماليّة أو تعويض من جراء حادث سير”. ويتابع قائلاً: “نفهم أنه كانت هناك ظروفٌ خلال فترة الحرب الأهلية فرضت توسيع صلاحيات المحكمة العسكريّة، عندما كان حبل الأمن مضطرباً، وكانت تأتي تهديدات لضباط وعسكريّين من قبل قوى الأمر الواقع؛ ولكن اليوم هذه الظروف انتهت. لذا، وجب تقليص صلاحيات المحكمة العسكرية لتعود إلى واقعها الطبيعي، أي محكمة استثنائيّة ليس لها علاقة ببتّ النزاعات بين المدنيين والعسكريّين في خلافات شخصيّة.”
موقف الجيش
ويشير صادر إلى محاولة جرت في عهد وزير العدل القاضي عدنان عضوم للعودة بالمحكمة العسكريّة إلى ما كانت عليه قبل الحرب الأهلية. “حيث تألفت لجنة لدراسة التعديلات المطلوبة بالاتفاق مع الجيش اللبناني، ولكن الذي حدث أنّ الجيش اللبناني رفض أيّ تعديل على الصلاحيات التي اكتسبها في ظروف استثنائيّة. بحجة أن التهديدات التي كانت موجودة سابقاً ما زالت قائمة بطريقة أو بأخرى”.
من جهة أخرى، لا يرى القاضي صادر ضرورة لأن تتألف المحكمة العسكرية من قضاة عدليّين كما يدعو البعض؛ معلّلاً ذلك بالقول: “كل المحاكم العسكرية في العالم يرأسها ضباط مجازون في الحقوق، والسبب يعود لأن الضابط يعرف أكثر من القاضي المدنيّ بشؤون العسكر”.
إعادة النظر في الصلاحيات
في هذا السياق، قال الدكتور بول مرقص رئيس مركز “جيوستيسيا” القانونيّ، في حديث لـ “أحوال”: بالرغم من صفتها الاستثنائيّة، فإنّ صلاحيات المحكمة العسكرية تستوجب إعادة النظر فيها لجهة محاكمة المدنيّين نظراً لعدم توافقها مع شروط المحكمة، ولجهة الشفافيّة أي حقوق الدفاع وتعليل الأحكام، وعلانيّة المحاكمات. “مرقص” يعلّل رأيه بالاستناد إلى شواهد عدة في أكثر من مكان في العالم، قائلاً: “كل التغييرات التي بدأت في القارة الأوروبيّة منذ أواخر القرن الثامن عشر والتي لا تزال تشهد مخاضها في المشرق العربيّ، لم تعُد تتواءم مع تبريرات التمييز بين المدنيّين والعسكريّين، كالقانون المغربيّ مثلاً رقم 13 /108 الصادر في 23 /7/2014، والذي اتجه إلى حصر صلاحيّات المحكمة العسكريّة مانعاً بذلك محاكمة المدنيين أمامها”.
ويردف، “انطلاقاً من أهميّة وجود المحكمة العسكريّة في منظومة التشريع اللبنانيّ ككيان أساسيّ في ظل التطورات التي تعصف بالمنطقة، تبقى القضيّة الأساس التشديد على استثنائية هذا الكيان عبر إعادة تحديد صلاحيات القضاء العسكريّ؛ ضمن منظومة العدالة اللبنانيّة، ومما يستتبعه من تفسير وتطبيق ضيق لهذا النص في إطار الصراع الدائم إلى تحرير العدالة من كل ما يمكن أن يكبّلها”. ويضيف: “يبقى أساسياً أن نحافظ على الخط الفاصل بين الحرية والفوضى، بين حماية حريّة المدنيّين ودرء الفوضى بين العسكريّين. بالرغم من أن العهد الدوليّ للحقوق المدنيّة والسياسيّة لا يُحظر محاكمات المدنيين أمام المحاكم العسكرية او الخاصة، فإنّ محاكمة المدنيين أمام هذه المحاكم يجب أن تكون استثناء في حدود بالغة الضيق، وأن تجري في ظل ظروف تكفل بحق جميع الضمانات المنصوص عليها في المادة 14 من العهد الدوليّ”.
توصية من حقوق الإنسان
مرقص يستعرض في حديثه لـ “أحوال” تاريخ إنشاء المحاكم العسكريّة في لبنان وما رافقها من تطوّرات، قائلاً: “لقد أُنشئت المحاكم العسكرية اللبنانيّة مع نشأة الجيش اللبناني في عام 1945. قبل تشريع قانون القضاء العسكريّ رقم 68/24، وذلك في مرحلة ما بعد الانتداب. أما بعد العام 1945، فشهد القانون اللبنانيّ توسعاً واضحاً في الصلاحيّات، وذلك عبر قوانين متعاقبة”. ويضيف: “كرّس الدستور اللبنانيّ في المادة 7 منه مبدأ المساواة بين الأفراد أمام القانون في الحقوق والواجبات. كما تضمنت مقدّمته إضافة إلى كل من المواد 19 و20 منه تكريساً لمبدأ فصل السلطات واستقلال القضاء”.
مضيفاً، “في السياق عينه وقّع لبنان عام 1972 على العهد الدوليّ ملتزماً بالمعايير العامة لاستقلال القضاء. إلا أنّه وخلافاً لهذه المبادئ، وفي مجال القضاء العسكري؛ ما زال القانون اللبنانيّ يتيح محاكمة المدنيّين أمام المحاكم العسكريّة التي لا توفّر الضمانات القضائيّة اللازمة، ولا تعلّل قراراتها. الأمر الذي يجعلها خارج الرقابة القانونيّة على عمل القضاء. مما حدا بلجنة حقوق الإنسان النيابيّة، وفي إطار سنّها للخطة الوطنيّة لحقوق الإنسان في لبنان إلى إصدار التوصية التالية: “حصر صلاحيّات المحكمة العسكريّة في القضايا المسلكيّة والتأديبيّة للعسكريّين دون أن يشمل اختصاصها المدنيّين”.
محكمة للإرهاب
هذا من جهة، أما من جهة أُخرى يقول “مرقص”: يجدر عدم التهجّم العبثي على دور المحكمة العسكرية وأعمالها، لكونها شكّلت وتشكّل رادعاً ضروريّاً في ظل عدم وجود محكمة مختصّة، وبالنطر أيضاً إلى قصور دور المجلس العدلي ومخالفته هو الآخر مبادئ المحاكمة العادلة. فالمطلوب هو إعادة تصويب النقاش الرامي إلى المطالبة بإعادة تحديد اختصاص المحكمة العسكرية والآلية التي تحكم عملها، وذلك بهدف إخراج الموضوع من دائرة المكايدات السياسيّة لإعادته إلى إطاره الحقوقيّ. مرقص دعا أيضاً إلى استحداث محكمة خاصة بقضايا الإرهاب. “من جهة نصون حقوق الإنسان من ناحية المحاكمة العلنيّة العادلة والأحكام المعلنة، ومن جهة أخرى نواجه الأزمات الكبرى التي يمرّ بها لبنان”.
نبيل المقدم