هل ينتشل مجلس النقد لبنان من أزمته؟
في الآونة الأخيرة، يتم التسويق إلى ضرورة إنشاء “مجلس النقد” كعلاج سحري سريع وفعّال للخروج من تدهور سعر صرف العملة الوطنية وتحقيق الاستقرار النقدي، ومن ثم النهوض الاقتصادي ومعالجة الأزمة من كل جوانبها. وقد دعم هذا التوجه كتاب لـ “ستيف هانكي”، الخبير الاقتصادي العالمي، والشخصية الرابعة عالمياً في التأثير الاقتصادي. الكتاب بعنوان “دليل مجالس النقد في البلدان النامية”، لمؤلفَيه ستيف ه. هانكي وكيرت شولر. ويقترح الكتاب استخدام نظام مجلس النقد لتثبيت سعر صرف الليرة والتخلّي عن القيود على السحوبات وحركة رأس المال (Capital Control) ووقف التضخم وغلاء الاسعار.
ما هو مجلس النقد؟
بحسب المؤلفيَن، يُعرّف مجلس النقد على أنّه:” مؤسسة نقدية تصدر أوراقاً نقدية وعملات معدنية مغطاة بالكامل بعملة ”احتياط“ أجنبية، ويمكنه تحويل من وإلى عملة الاحتياط الأجنبية بسعر ثابت وغب الطلب.
أما عملة الاحتياط، فهي عملة أجنبية قابلة للتحويل، أو سلعة أساسية (الذهب مثلاً) يتم اختيارها لاستقرارها المتوقع. ويحتفظ مجلس النقد باحتياطيات تساوي 100 بالمائة (أو أكثر بقليل) من أوراقه النقدية وعملاته المعدنية المتداولة، على النحو المنصوص عليه في القانون”.
وبحسب الكتاب أيضاً، “يحتفظ مجلس النقد النموذجي بسعر صرف ثابت على الدوام فيما يتعلق بالتحويل من عملة الاحتياط وإليها. ويكون سعر الصرف ثابتاً بشكل دائم، ولا يُغيَّر إّلا في أسوأ حالات الطوارئ إن اقتضت الحاجة”.
إذن، يُستنتج من هذا التعريف أنّ مجلس النقد هو مؤسسة قائمة بحدّ ذاتها وظيفتها هي إصدار النقد الوطني؛ وعليه، يجب أن يتم تغطية إصدار أي كمية من النقد الوطني باحتياطي من عملة أجنبية – غالباً ما تكون الدولار- بنسبة 100 بالمئة، على أن يتم تحويل واستبدال العملة الوطنية بعملة الاحتياط الأجنبية في أي وقت كان، بالاعتماد على وجود ما يوازيها كاحتياط. ويعتمد مجلس النقد على تثبيت سعر صرف العملة الوطنية بشكل دائم، ويستخدم كل الإجراءات المطلوبة لتحقيق هذا الهدف.
مجلس النقد والاستعمار
يعود نظام مجلس النقد إلى الحقبة الاستعمارية، حيث كانت المستعمرات البريطانية والفرنسية تتبع هذا النظام. ففي عام 1960، كانت 38 بلداً أو إقليماً تعمل تحت نظام النقد، حيث لم تتواجد في معظم هذه الدول المستَعمرة مصارف مركزية تتولّى عملية إصدار النقد الوطني والسياسة النقدية. وبحلول عام 1970 وُجدت 20 دولة، وبحلول أواخر الثمانينات لم يكن هناك سوى 9 دول، وازداد عدد البلدان الذي تستخدمه حالياً إلى 14 بلداً.
هذا، ويستميت أصحاب هذه النظرية بالترويج لهذه النظرية، ويطالبون أن يستلم رئاسة هذا المجلس الخبير الاقتصادي ستيف هانكي باعتباره ساعد عدة دول بالخروج من أزماتها منها بلغاريا، أستونيا، ليتوانيا، والبوسنة والهرسك.
وإذا كان هذا المجلس سيحتكر سلطة إصادر النقد والتحكّم بسعر صرف العملة الموطنة، فيصبح بيده مقاليد التحكم بكل مفاصل الحياة الاقتصادية. ومع كثرة الدعوات في الآونة الأخيرة إلى وضع لبنان تحت الوصاية الدولية عبر تصنيفه دولة فاشلة أو قاصرة، يُعتبر مجلس النقد وفق ذلك أهم أدوات هذه الوصاية والهيمنة الدولية، خاصة مع ربط عملية تغطية إصدار النقد الوطني بالدولار الاميركي 100 بالمئة بطريقة قانونية. وبالتالي يتم ارتهان المالية العامة، وكل ما يتعلّق بالنقد الوطني وسعر الصرف بالكامل بالدولار بطريقة قانونية، وليست عملانية فقط كما هو الواقع الآن. ويستطيع من يتولّى رئاسة مجلس النقد التحكم بكل المسارات الاقتصادية والنقدية دون الحاجة إلى عقوبات أميركية.
بديل عن المصارف المركزية
ضمن عنوان عريض في الكتاب “مجلس النقد مقابل المصرف المركزي”، يستعرض المؤلفان سلبيات المصارف المركزية في مقابل حسنات مجالس النقد، لإظهار بالحجة والبرهان وفق منظارهما ضرورة حلول مجالس النقد مكان المصارف المركزية. وقد أفرد الكتاب فصلاً كاملاً عن هذا الموضوع، إذ يتحدث الفصل الرابع عن نهجين لإنشاء مجلس نقد. ويتمثل أحد النهجين في تحويل المصرف المركزي إلى مجلس نقد؛ أما الثاني، فيتمثل في إنشاء مجلس نقد يُصدر عملة موازية لعملة المصرف المركزي. وتعرف العملة الموازية على أنها عملة يتم تداولها على نطاق واسع إلى جانب عملة أخرى.
ووفق ذلك، إذا قمنا في لبنان بتحويل مصرف لبنان إلى مجلس النقد فهذا يعني تغييراً جذرياً في بنية القطاع المالي اللبناني، مما يتطلّب تغييراً جذرياً موازياً في بنية الاقتصاد والمالية العامة ونسفاً كلياً لقانون النقد والتسليف بمواده الـ 230، واقتراح قانون مختلف جوهرياً عن سابقه. وهذا يستلزم ورشة عمل تشريعية لا يمكن تحقيقها وفق الظروف اللبنانية لاعتبارات عديدة، فيما مسألة عدم إقرار قانون العفو العام ليس ببعيد.
أما إذا تم إنشاء مجلس نقد موازي لمصرف لبنان، فقد نقع في تعارض للصلاحيات النقدية وما لذلك من آثار مدمرة على الاقتصاد. أضف إلى ذلك، وفق التركيبة والتوازنات اللبنانية، فستنشأ الخلافات دون أدنى شك حول من سيتولى رئاسة مجلس النقد، الشيعة أو السنّة أو المسيحيون؛ وسيخضع رئيس مجلس النقد للفريق السياسي ولنفس الطبقة السياسية الحالية وفسادها وبالتالي يصبح خاضعاً أيضاً لسياستها. وأخطر ما في هذا الطرح هو إصدار عملة أخرى للتداول موازية لليرة اللبنانية، فنصبح أمام عملتين لهما قوة الإبراء القانونية وبالتالي سعرين للصرف وسياسات نقدية متعارضة متضاربة.
تبسيط وتسخيف الموضوع لا يعني الحل
قد يكون فكرة إنشاء مجلس النقد_ وفق شروط وآليات معينة وليس كما يطرحها أصحابها، هي الحل في استقرار سعر صرف العملة الوطنية ولكنها حلّ لجزئية واحدة من الأزمة اللبنانية.
إنّ الأزمة اللبنانية أعمق بكثير من تبسيطها وتسخيفها إلى هذا الحد الذي يروّج له أصحاب نظرية مجلس النقد. فالأساس في أزمتنا هو سياسي بامتياز وبالدرجة الاولى، لذلك حلّها يبدأ بالسياسة وينتهي بها. العديد من المشاكل لا يستطيع مجلس النقد الإجابة عنها والقيام بحلها، وعلى رأسها إعادة أموال المودعين بالدولار وهذا الامر يتطلب هيكلة للقطاع المصرفي برمته، وهو خارج نطاق دور ووظيفة مجلس النقد. وإذا كان مجلس النقد قادراً على تكوين احتياطي من العملات الأجنبية بالكامل كما يدعي أصحاب النظرية، فالأولى إعادة تكوين احتياطي مصرف لبنان والذي من خلاله يتم تحقيق الاستقرار النقدي، وتمويل حاجات الاستيراد وخاصة للسلع الأساسية في المرحلة الاولي في بلد مثل لبنان؛ على أن يتم لاحقاً عبر هذا الاحتياطي تمويل الاستثمار في القطاعات الإنتاجية أو القطاعات الجاذبة للدولارات من الخارج مثل القطاع السياحي وقطاع المعرفة والتكنولوجيا الرقمية.
وبذلك يعود الانتظام إلى القطاع المصرفي وتسود الثقة به من جديد كأهم قطاع يقوم عليه الاقتصاد اللبناني. وإن اعتبار مجلس النقد خشبة الخلاص يعني أننا أمام نفس الذهنية والعقلية في التركيز على السياسة النقدية فحسب، وإلغاء أي اعتبار للسياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، واستمرار تحكم رأس المال في القرار الاقتصادي.
إلى ذلك، سيتم الإبقاء على نفس نظام سعر صرف العملة الوطنية الثابت والذي أثبت فشله خلال العقود الثلاثة الماضية، وما سنشهده هو تغييراً في سعر الصرف فقط من 1507.5 إلى 4000 أو 5000 مثلاً. وسنشهد أزمة جديدة مستقبلاً إذا توافرت نفس الأسباب في ظل نظام صرف هو ذاته، مع العلم أن جميع خطط الإصلاح الاقتصادية والمالية من قبل صندوق النقد الدولي وغيره، تدعو إلى تحرير سعر صرف العملة الوطنية.
إن نجاح مجلس النقد في بعض الدول لا يستلزم بالضرورة نجاحه في لبنان، لأن نجاح أي خطة إنقاذية لبلد ما يعاني من أزمة مستفحلة يجب أن تتناسب مع ظروف هذا البلد السياسية ومقوّماته ومقدراته المالية والاقتصادية. وها هو مجلس النقد فشل في إخراج الأرجنتين من أزمتها لأنه لم يتماهَ مع ظروفها وبيئتها والتي تتشابه إلى حد ما مع لبنان. أظن أن مقاربة الموضوع تحتاج إلى دراسة معمقة أكثر قبل اتخاذ أي قرار أو حسم نهائي بجدوى مجلس النقد من عدمه.
د.أيمن عمر