
باتت التصريحات المتكرّرة التي يطلقها توم برّاك، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول «إنهاء لبنان» أو «ضمّه» إلى إمارة يهيمن عليها أبو محمد الجولاني في سوريا، أشبه بإشارات حمراء متتابعة تتجاوز حدود زلات اللسان أو المواقف الشخصية. إذ ما عاد ممكناً التعامل معها كحديث عابر أو محاولة غير موفقة لإحداث صدمة إعلامية؛ فهي تصدر عن شخصية تحظى بثقة ترامب ودوائر النفوذ المحيطة به، وعن إدارة أثبتت مراراً أنها تُجري تعديلات جذرية على خرائط المشرق بقرار رئاسي واحد.
فالذاكرة لا تزال حاضرة: منحه إسرائيل سيادة على الجولان، اعترافه بالقدس عاصمة للكيان، تشجيعه الضم في الضفة الغربية، وإعادة تعريف الحدود السورية عملياً عبر رعاية كيانات الأمر الواقع. كلّها سوابق تجعل من كلام برّاك امتداداً لمنطق سياسي قائم، لا مجرد خروج إعلامي بلا سند.
الأكثر خطورة أن التصريحات الأخيرة لا تقتصر على البعد السياسي التقليدي، بل تتقاطع مع رؤى اقتصادية واستثمارية تروّج لفكرة «إعادة تأهيل» الجنوب اللبناني عبر نقل ملكية أراضيه الحدودية إلى شركة عقارية أميركية – مشروع يُسوَّق كفرصة إنمائية فيما هو في جوهره محاولة هندسة تغيير ديموغرافي وجغرافي مقنّع. من هنا يصبح الحديث عن ضمّ أو تفكيك أو دمج مناطق لبنانية مع كيانات في سوريا، ولو بدا للوهلة الأولى خيالياً، جزءاً من مخطط أوسع يعيد الاعتبار إلى منطق «حدود القوة» بدل «قوة الحدود».
لبنان الرسمي، وسط كل ذلك، يتصرّف كمن يسمع ضجيجاً من غرفة الجيران لا يعنيه. صمت السلطة ليس ترفّعاً ولا حكمة، بل مؤشر مزدوج: غياب إرادة المواجهة من جهة، وملامح قبول خجول بالمشروع من جهة أخرى، سواء عبر التغاضي أو عبر تسويق وهم «أن الأمور أكبر من لبنان ولا قدرة له على الرد». لكن التجارب التي غيّرت خرائط المنطقة لم تبدأ بقرارات كبرى، بل بإشارات مشابهة: تصريحات، رؤى إعلامية، تسريبات دبلوماسية، ثم إدخال الفكرة في التداول الدولي إلى أن تتحول إلى أمر واقع.
وبينما ينشغل الداخل اللبناني بخلافاته الصغيرة، يتحول لبنان – فعلياً – إلى ساحة اختبار لفكرة الإلغاء: إلغاء الحدود، إلغاء الهوية، وإلغاء القدرة على الاعتراض. المشروع ليس نظرياً، والتهديد لا يقتصر على ترف التحليل. فوجود مبعوث لرئيس الولايات المتحدة يتحدث عن إنهاء لبنان، هو بحد ذاته إعلان بأن البلد أمام مرحلة جديدة من الضغوط الجيوسياسية، وأن كل تهاون في الرد يفتح نافذة لمن يريد إعادة تشكيله وفق مصالح خارجية.
في المحصّلة، ما قاله برّاك ليس حادثة لغوية ولا رأياً فردياً. إنه ورقة من أوراق مشروع أكبر ينتظر لحظة ضعف لبنانية ليمرّ. مواجهة هذا المشروع لا تحتاج إلى خطابات نارية بقدر ما تتطلب يقظة سياسية، وتحركاً رسمياً يستعيد هيبة الدولة ويذكّر العالم بأن لبنان ليس مساحة معروضة للمزاد، بل كيان تأسس بتضحيات، وقام على توازنات تاريخية لا يمكن لشخص أو إدارة أن تلغيها بقرار أو بتصريح.
لبنان اليوم أمام الامتحان: إما استعادة دوره كدولة قادرة على حماية وجودها، وإما ترك الآخرين يكتبون صفحة جديدة من تاريخه… من دون اللبنانيين.



