
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد طُرحت قضية منذ أيام أثارت جدلًا واسعًا لا سيما في لبنان، حيث نشر أحد السياسيين مقاطع فيديو ومنشورات حول شخصية “ابن تيمية”، وكان واضحًا من أسلوب النشر وتوقيته الهدف من وراء ذلك.
إلا أن السؤال الأهم هو: هل ابن تيمية يُعتبر مرجعًا إسلاميا عند أهل السنة والجماعة؟
أقول وبالله التوفيق جوابًا عن هذا: إن ابن تيمية شخصية معروفة في الوسط العلمي السني، لا على أنها مرجع مُعتمد عند أهل السنة كما سيأتي، بل بالقضايا الجدلية التي طرحها وخالف بها غيره من معاصريه ومن قبلهم سلف وخلف.
وقبل سرد النصوص التي تُثبت مخالفته لما كان عليه السلف الصالح، أودّ أن أذكر أن المراد بابن تيمية هنا “الحفيد” وليس جده الفقيه المجد بن تيمية الحنبلي المشهور الذي كان عالمًا سُنيًا، فالحديث هنا عن “أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، أبي العباس، تقي الدين”.
فقد كان والده قد تولّى بعض الوظائف العلمية وذلك بإكرام أهل الشام ورجال الحكومة له، وبعد وفاته تولّى ابن تيمية هذه الوظائف وحضر علماء الشام مجالسه تشجيعا له على المضيّ في وظائف والده وأثنوا عليه خيرًا كما هو شأنهم مع كل ناشئ حقيق بالرعاية.
وقد أثنى عليه عدّة من العلماء وقتها -في بادئ الأمر- ومنهم التاج الفزاري والجلال القزويني والكمال الزملكاني والعلاء القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء غرّه حيث لم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم، فبدأ يذيع بدعًا بين حين وآخر، وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح، فتخلّوا عنه واحدٌ إثر واحد على توالي فتنه.
هل خالف ابن تيمية علماء أهل السنة حقيقة؟
كما مرّ فقد خالف ابن تيمية علماء عصره ومن كان قبلهم، حتى إن المحدث الحافظ الفقيه ولي الدين العراقي في كتابه “الأجوبة المرضية على الأسئلة المكيّة” ذكر أن ابن تيمية خرق الإجماع في مسائل كثيرة قيل تبلغ ستين مسئلة بعضها في الأصول وبعضها في الفروع خالف فيها بعد انعقاد الإجماع عليها، وتبعه على ذلك خلقٌ من العوام وغيرهم، قال ما نصّه: (فخرج ابن تيمية عن الاتباع إلى الابتداع، وشذّ عن جماعة المسلمين بمخالفته الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المُقدس، وقال بحلول الحوادث بذات الله) اهـ.
وممن ذكر مخالفة ابن تيمية لما عليه الأمة الإسلامية، الحافظ أبو سعيد العلائي، والحافظ المؤرخ شمس الدين بن طولون، والشيخ ابن حجر الهيتمي، وابن المعلم القرشي. وقد استتيب ابن تيمية مرات وهو ينقض مواثيقه وعهوده في كل مرة حتى حُبس بفتوى من قضاة المذاهب الأربعة، وقد قال ابن شاكر الكتبي في “عيون التواريخ”: (وأصدر الملك محمد بن قلاوون منشورا ليُقرأ على المنابر في مصر وفي الشام للتحذير من ابن تيمية ومن أتباعه). علمًا أن ابن شاكر المذكور هنا هو من تلامذة ابن تيمية.
ما هي المسائل التي خالف بها؟
من المسائل التي خالف بها ابن تيمية وتُعتبر من أخطرها قوله بأن الله سبحانه محلّ الحوادث، وإنه مركب مفتقر إلى ذاته افتقار الكل إلى الجزء، وإن القرآن محدث في ذاته تعالى، وإن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوق دائمًا، ومنها قوله بالجسمية والجهة والانتقال وكل هذا فيه رد للقرآن والسنة.
ومن المواضع التي صرّح بها بالجسمية كتابه “مجموع الفتاوى، المجلد الثالث، ص: 229، حيث قال: (إن محمدا صلى الله عليه وسلم يُجلسه ربه على العرش معه). وفي كتابه “الأسماء والصفات” الجزء الأول، طبعة دار الكتب العلمية بيروت، صحيفة: 81، قال: إنه إذا جاءهم -أي الله- وجلس على كرسيه أشرقت الأرض كلها بأنواره” اهـ، وكتبه طافحةٌ بمثل هذه الأقوال، تعالى الله عن هذا علوا كبيرا.
وهذا كله مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة، حيث إن العلماء قد أجمعوا على أن الله سبحانه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان وأنه لا يحتاج إلى شيء من خلقه، وعلى هذه العقيدة المسلمون سلفا وخلفا حيث تُدرس في المعاهد الإسلامية ودور الفتوى والأزهر الشريف منذ مئات السنين.
ففي كتاب الفرق بين الفرق للإمام الأصولي عبد القاهر بن طاهر البغدادي في الصحيفة 332، 333 قال: (وأجمعوا -أي أهل السنة- على أنه -أي الله- لا يحويه مكان، ولا يجري عليه زمان، وأجمعوا على نفي الآفات والغموم والآلام عنه سبحانه، وعلى نفيس الحركة والسكون عنه، وأنه تعالى غنيّ عن خلقه، وأنه سبحانه واحد لا شريك له، لا بداية له ولا نهاية.. وقال: ومن قال بقدم العالم -أي أن العالم قديمٌ في الأزل مع الله – كفر).
ما الذي يجري اليوم؟
اليوم وكما يُقال اختلط الحابل بالنابل، هناك من يعرف خطورة هذه الأقوال وغيرها ويُصر على امتداح قائلها إما خوفًا على زوال منصب أو مداهنة، وهناك من يجهل حاله فيُسوّق أفكاره، وهناك أتباع مدرسته وأفكاره الذين يعملون ليلا نهارا على نشرها بكل الوسائل المتاحة لديهم. وإذا رأيت حال الجماعات المتطرفة اليوم فلا تكاد واحدةٌ منها إلا وتتبع منهجه وفتاويه، وتتخذها كالقرآن وكأنها مُنزلة من عند رب العالمين، لا يقبلون نقدًا ولا ردًا ويتهمون من يخالفهم بالكفر والزندقة، وقد جاء عن الإمام مالك أنه قال: (كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر) أي النبي صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة: إن العبرة بموافقة الصواب، وهذه كتب ابن تيمية موجودة، ونقول: إن كان ابن تيمية لم يقل -مع أنه ثبت لدينا ذلك- هذه الأقوال الصريحة بتكذيب القرآن فحينها فهو مُبرّأ، وإن كان قد قالها حقيقة فإنه واقع بالمحظور المخالف لصريح المعقول والمنقول، فمن ثبت عنده هذه الأقوال ويُصر على أن ابن تيمية من أهل السنة والجماعة فقد خان الأمّة، أما من كان يُبرؤه عن هذه الفتاوى ويعتبر أنها دسٌ على ابن تيمية فهذا أمر آخر -مع نُدرة من يفعل ذلك- ومع ذلك فإننا ندعوه لمزيد البحث والتدقيق والنظر، ليعلم أن من رد على ابن تيمية لم يفترِ عليه.
والله أعلم وأحكم.