تشكيل الحكومات اللّبنانية: أزمة نظام بنيوية دائمة
حتى تاريخه لم ينجح الرئيس المكلّف تأليف الحكومة اللّبنانية سعد الحريري في تقديم تشكيلة حكومية تحظى برضى الأطراف اللّبنانية ورعاتها الخارجيين.
في رواية لبنانية شهيرة منذ عهد الرئيس اللّبناني السابق كميل شمعون (1952 – 1958) أنّه في العام 1955 دخل عليه أحد مستشاريه مستعجلًا ليعلمه بخبر خطير “فخامة الرئيس وصلنا خبر خطير من دوائر القرار في واشنطن يقول بأنّ الإدارة الأميركية قد اتخذت قرارًا بالسير قدمًا لتقسيم لبنان وتحويله إلى كانتونات طائفية، علينا التنبه وأن نتحضر لكيفية الردّ على مثل هكذا قرار أو مشروع”، فضحك الرئيس شمعون وأجاب بهدوء “هل الخبر مؤكد؟ “نعم مؤكد نقلًا عن فلان وفلان”، فردّ الرئيس “وماذا قالوا وخططوا للعراق؟”. فأجاب المستشار بعدم معرفته بـ”أي شيء عن العراق”. فكان جواب “فتى العروبة الأغرّ” حاسمًا قاطعًا “لا يمكن تغيير خريطة لبنان طالما العراق موحد وغير ذلك كلام ونظريات لا تنطبق على أرض الواقع”.
منذ قرنين من الزمن يصعب إحصاء أزمات لبنان، برغم صغر مساحته وعدد سكانه المتواضع مقارنةً بدول أكبر، لكنّ الأزمات تكاد تكون هي البلد، ولا يُعرف البلد إلّا بمصائبه. وفي القراءة اليوم يصحّ استذكار كلام الرئيس كميل شمعون انطلاقًا من ترابط الأزمات وتزامنها وتوحد مصائر شعب هذه الجغرافيا المسمّاة بلاد المشرق العربي أو سوريا الطبيعية.
قد يقول البعض أّن استقلال هذه الأوطان قد أصبح حقيقة موجودة ومسألة التشكيلات وتركيبات الحكم فيها تبقى شأنًا داخليًا محضًا، ولكنّ الواقع يبقى على قاعدة ترابط الجغرافيا وتشابك مصائر الناس أقوى وأفعل على الأرض. وليس من قبيل المصادفة أن ترتبط كلّ الاستحقاقات اللّبنانية بالمنطقة، فلا يستغربن أحد إن “تأخرت الحكومة لكشف مصير معارك اليمن، وحسم سوريا ومخاض العراق ونتائج انتخابات أميركا وطبعًا تحديد مصير فلسطين ومستقبلها…”.
منذ الاستقلال وحتّى مشارف نهاية الحرب الأهلية (1943 – 1988) شهد لبنان تعاقب عدد من رؤساء الجمهورية، الغريب في الأمر أنّ عمليات الانتخاب قد تمّت في مواعيدها الدستورية. لكنّ ذلك لم ينعكس على عمليات تأليف الحكومات أو مواعيد انتخابات مجلس النواب، بل كانت هذه العمليات معقدة جدًا وتحتاج دومًا إلى “دافع” خارجي يترافق مع انفجار داخلي، ومحرّك إقليمي يفرض نوعًا من القوّة في تنفيذ الكثير من القرارات. ومسألة تشكيل الحكومة أو الانتخابات النيابية أو الرئاسية تخضع لمعايير إقليمية أكثر منها ترجمةً لتمثيل شعبي أو إرادة حراك ومظاهرة.
بعد الطائف وحتى العام 2005، كان البلد في عهدة سورية عملت على تسيير شؤونه “باللّتي هي أحسن”، لكن مع انسحاب الجيش السوري توقفت عجلة الحكم ودخلت البلاد في أزمات دائمة، لا بل مستعصية، وانتقلنا من أزمة تشكيل الحكومات إلى أزمات الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية لأشهر طويلة وتمديد للمجلس النيابي وأزمة يومية تولد أزمة، ويتأكد يوميًا عقم النظام والإدارة وميثاق الجمهورية الذي يتجه دومًا نحو الانفجارات بفعل عوامله الداخلية والدوافع الخارجية المساعدة. وأصلًا الدستور والقوانين وضعت منقوصة وتركت الألغام في داخلها كي تكون مادة متفجرة في أي لحظة، ومنها مسألة تشكيل الحكومات.
هي تركيبة المستعمر- المستثمر التاريخية في استيلاد التناقضات من قلب التركيبة نفسها، وهي لعنة التاريخ والتناقضات الإقليمية والدولية، وهي لعنة الموقع الجغرافي، وهي لعنة بلائه بطبقة متكاملة لا نقيض بينها إلّا لحظة تقاسم الجبنة، رغم قلّتها وندرتها، وهي لعنة القلق الدائم وعدم الاستقرار وطلب معونة الخارج الأجنبي دومًا كي تبقى له مواطئ أقدام ومداخل متاحة للّعب في الداخل متى شاء، وأنّ العُقد الداخلية تبقى هامشية رغم أهميّتها، وبناءً على التجارب السابقة يتبيّن لنا أنّ كل القوى المحليّة تسارع لتغيير كلّ مواقفها مجرّد أن تهبّ العواصف من الخارج.
وما يزيد الطين بلّة أنّ الإنزياح الديمغرافي اللّبناني يساهم في تغيير مراكز القوى وهذا بالطبع سيعكس نفسه على شؤون إدارة الحكم وسيفرض مخاضات عسيرة قبل أن تسقط هذه الطبقة الحاكمة وتستسلم للأمر الواقع الجديد.
وتبقى الأسئلة المشروعة من قبيل:
– كيف تنظر قوى فاعلة وأساسية، مثل حزب الله والتيار الوطني الحر، إلى مستقبل النظام السياسي المولّد يوميًا للأزمات؟ وأين برنامجها الوطني لتطوير النظام؟.
– أين القوى الشعبية التي شاركت في الحراك للضغط باتجاه الفكاك من هذا التعقيد الدائم ويمكن أن تكون هناك آفاقٌ أخرى للتطوير؟.
– إذا كانت قضايا المنطقة معقدة ومتشابكة ألا يمكن حلّ معضلات الناس وقضاياهم الحياتية والخروج من المنظومة الاقتصادية السابقة؟.
– السؤال الأهم: هل يمكن أن يستمر هذا النظام “الطائفي الريعي” الغارق بوحول الجريمة المنظمة بحقّ كل مواطن؟.
– أين الأحزاب والقوى الجذرية التي تطرح بدائل ممكنة ومنطقية؟
الجواب طبعًا سلبي جدًا، والتجارب السابقة تشهد. الأزمة ليست في التشكيل بل في تركيبة كل هذه المنظومة المعقدة، من السياسيين، ولن تنتهي بمجتمع ينتج كل هذه المآسي ويثبت التحالف بين أركان السلطة والهروب من مواجهة حقيقة الأزمة في تركيبة النظام والعوامل الخارجية.
ومن هنا، يجب قراءة اللّوحة من مختلف الجوانب. فإذا كان العامل الخارجي هو الضاغط دومًا، فكيف يمكن ابتداع حلول محليّة في المنطقة والعالم، ضمن عمليّة التأليف اللّبنانية، من أجل الخروج من المآزق المتكرّرة الممجوجة؟.
عامر ملاعب