كذبة التذرّع بالقوانين اللبنانية لتجنّب التدقيق الجنائي
لا تزال قضية التدقيق الجنائي تتفاعل في لبنان، و لا يزال الحديث عن إفشاله بحجج قانونية سيّد الموقف. فهل حقاً القوانين اللبنانية تقف حجر عثرة أمامه أو أنّ وراء الأكمة ما وراءها للتغطية والتعمية على منظومة كاملة تحكّمت ولازالت في رقاب اللبنانيين؟
قانون النقد والتسليف
صدر قانون النقد والتسليف في 1 آب 1963 في حكومة الرئيس رشيد كرامي لتنظيم عمل القطاع المصرفي برمته؛ ويتألف قانون النقد التسليف من 230 مادة تتوزّع على ستة أبواب ضمن عدة أقسام. وبالغوص في تفاصيل المواد وأحكامها، نجد أنّه ليس من مادة تحظر أو تمنع تقديم المعلومات والبيانات المرتبطة بالقطاع المصرفي بدءاً من مصرف لبنان مروراً بالمصارف على اختلافها، وصولاً إلى حسابات المودعين من أفراد ومؤسسات؛ بل على العكس تماماً هناك بعض المواد التي تُلزم حاكم مصرف لبنان بتقديم أهم البيانات إلى الجهات الرسمية المختصة؛
وبحسب المادة 117:” يقدّم حاكم المصرف لوزير المالية قبل 30 حزيران من كل سنة الميزانية وحساب الأرباح والخسائر عن السنة المنتهية وتقريراً عن عمليات المصرف خلالها”، وأكثر من ذلك تذهب هذه المادة بعيداً في إتاحة هذه المعلومات للجمهور عبر نشرها بالجريدة الرسمية: “تُنشر الميزانية والتقرير في الجريدة الرسمية خلال الشهر الذي يلي تقديمها لوزير المالية، ويُنشر بيان وضع موجز كل 15 يوماً”. ومن المؤكد أنّ هذه الحسابات تساعد كثيراً في كشف مكامن الخلل المالي والمحاسبي في حال وُجد وبالتالي تُسهّل عمل التدقيق الجنائي.
أمّا المادة 43، فهي تنص على تبليغ مفوّض الحكومة لدى المصرف المركزي فوراً بجميع قرارات المجلس المركزي لمصرف لبنان، وبالتالي يحقّ له الإطلاع على كافة المعلومات والبيانات؛ فقد نصت المادة: “تبلّغ فوراً الى المفوّض قرارات المجلس وله، خلال اليومين التاليين للتبليغ أن يطلب من الحاكم تعليق كل قرار يراه مخالفاً للقانون وللأنظمة ويراجع وزير المالية بهذا الصدد، واذا لم يبت في الأمر خلال خمسة أيام من تاريخ التعليق يمكن وضع القرار في التنفيذ”.
وهذه المعلومات لا تقتصر على مفوّض الحكومة بل عليه بتبليغها لوزير المال بحسب المادة 45: “يطّلع المفوّض ووزير المالية والمجلس دورياً على أعمال المراقبة التي أجراها كما يطّلع وزير المالية بعد قفل كل سنة مالية على المهمة التي قام بها خلال السنة المنصرمة، بموجب تقرير يرسل نسخة عنه إلى الحاكم”.
وإذا كان التدقيق الجنائي يهدف إلى الكشف عن النهب والسرقة وإعادة الأموال المنهوبة إلى أصحابها، فإنّ المادة 156 من قانون النقد والتسليف تؤكد على حماية أموال الناس: “على المصارف أن تراعي في استعمال الأموال التي تتلقاها من الجمهور القواعد التي تؤمّن صيانة حقوقه”، ليؤكد ذلك على أنّ واجب مصرف لبنان وبالإستناد إلى قانون النقد والتسليف تقديم جميع ما يضمن صيانة حقوق الناس في أموالهم.
إلى ذلك، يُعتبر التدقيق الجنائي من أهم الإصلاحات التي تسعى أي حكومة إلى تحقيقها، ومن دونها تصبح السياسات المالية والاقتصادية للحكومة لا فائدة منها، ويصبح وفق ذلك مصرف لبنان ملزماً أن يقدّم كل ما يلزم لتحقيق هذه الغاية بالاعتماد على المادة 71: “يتعاون المصرف المركزي مع الحكومة ويقدم لها كل مشورة تتعلق بالسياسة المالية والاقتصادية بغية تأمين الإنسجام الأوفر بين مهمته وأهداف الحكومة”.
قانون السريّة المصرفية
اعتمد لبنان السرية المصرفية بموجب القانون الصادر بتاريخ 3 أيلول 1956، مع وجود المادة 579 من قانون العقوبات التي تعاقب على إفشاء الأسرار من قبل الأفراد الذين يعلمون بها بحكم وضعهم أو وظيفتهم، أو مهنتهم أو فنهم، من دون أن يكون هناك سبب شرعي أو استعمال لمنفعة خاصة أو لمنفعة أخرى. بموجب هذا القانون، تلتزم المصارف الخاضعة لأحكامه السرية المطلقة، إذ لا يجوز كشف السر المصرفي سواء في مواجهة الجهات الخاصة أو السلطات العامة، وسواء كانت قضائية أو إدارية أو مالية.
ولكن هناك عدة استثناءات وهي:
1- في حال موافقة الزبون أو ورثته خطياً. المواد 2-3-5 .
2- في حال النزاع بين الزبون والمصرف. المادة 2 .
3- في حال صدور حكم بإشهار افلاس العميل. المادة 2.
4- في حال دعوى الإثراء غير المشروع. المادة 7.
5- في حال تبادل المعلومات بين المصارف. المادة 6.
6- الإشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها، وعندها تُرفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية، ووفق الفقرة الثانية من البند 4 من المادة 6 من القانون الرقم 318/2001 المتعلّق بمكافحة تبييض الأموال.
وفي 28 أيار 2020، أقرّ مجلس النواب قانون رفع السريّة المصرفية ليرفع السريّة عن فئة معينة من الناس المشمولة في المادّة الأولى من القانون. هذه الفئة تضمّ الأشخاص وعائلاتهم الذين يؤدّون وظيفة عامة أو خدمة عامة، سواء أكانوا معينين أم منتخبين، دائماً أم مؤقتاً، مدفوعي الأجر أم غير مدفوعي الأجر، في أي شخص من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص، على المستويين المركزي واللامركزي، أو عمل يؤدى لصالح ملك عام أو منشأة عامة أو مرفق عام أو مؤسسة عامة أو مصلحة عامة أو مال عام، سواء أكان مملوكاً، كلياً أو جزئياً، من أحد أشخاص القانون العام، وسواء تولاها هؤلاء الأشخاص بصورة قانونية أم واقعية، بما في ذلك أي منصب من مناصب السلطات الدستورية أو أي منصب تشريعي أو قضائي أو تنفيذي أو إداري أو عسكري أو مالي أو أمني أو إستشاري، ورؤساء الجمعيات التي تتعاطى الشأن السياسي وأصحاب الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة.
وهذا الرفع يشمل كل الحسابات المصرفية على اختلاف أنواعها بما في ذلك المحافظ المالية والصناديق الحديدية في المصارف التي يكون لأحد الأشخاص المنوّه عنهم في هذه المادة حق التوقيع أو التصرف بشأنها بتوكيل أو تفويض أو ما شابه.
وبناءً عليه، فإنّ قانون رفع السرية المصرفية وهو من القوانين النافذة، لا يقف عائقاً أمام مصرف لبنان لتقديم كل المعلومات اللازمة عن حسابات المسؤولين وخاصة أنّهم المتهمين الأوائل في الفساد ونهب المال العام؛ فضلأ عن لحظ قانون السرية المصرفية لبعض الاستثناءات منها في حالة دعوى الإثراء غير المشروع (المادة 7)، والاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها؛ مع إضافة القانون 43/2015 الذي أعطى إمكانية رفع السرية المصرفية عن الأشخاص المشبوهين، إلى القضاء من خلال طلب تقوم به هيئة التحقيق الخاصة.
التذرّع بالقانون كذبة كبرى
يتضح لنا بالملموس القانوني أنّ التذرع بالقوانين اللبنانية لحجب المعلومات عن الشركة المولجة بالتدقيق الجنائي ما هو إلا كذبة سمجة تظهر استقتال منظومة الفساد في حماية نفسها من أي أمر قد يصيبها في مقتل. هذه المنظومة القائمة على مكوّنات مصرفية ومالية وقانونية وأمنية وشرعية وسياسية تقوم بتطويع القوانين والدستور كما تشاء لمصلحتها، وهي تمتلك جميع الأدوات وفي شتى المجالات بالمحافظة، بالتضامن والتكافل على عروشها، لأنّها كأحجار الدومينو، إذا سقط أحدها فإنّ مصير الباقي إلى غيابت السجون والمعتقلات.
د.أيمن عمر