منوعات

هَبْ أننا اتّجهنا شرقاً هل تحتضننا الصين؟

طَرحَ فريقٌ من اللبنانيين خِيار الاتّجاه شرقاً في المجال الاقتصاديّ طمعاً في تحقيق استقلال سياسيّ، بعيداً من الهيمنة الغربيّة، خصوصاً الأميركيّة، فوجد في مواجهته الفريقَ الآخرَ مترصّداً رافضاً، وإجابُته أن تاريخَنا والغربَ مديدٌ!

ربّما يكون الطرحُ الذي بادرَ إليه الأمينُ العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عملياً، لكنّه لا يخلو من البُعد الإيديولوجيّ، وقد سبق اليساريين في الاتّجاه شرقاً؛ فطرحَه يتّسق مع وصيّة الإمام الخمينيّ قائد الثورة الإسلامية في إيران في معرض طرحه “إرسال الطلاب الجامعيين الملتزمين إلى الدول التي تملك الصناعات الكبيرة المتطوّرة، والتي ليست استعماريّة ولا استغلاليّة، وأن يمتنعوا عن إرسالهم إلى أميركا وروسيا والدول الأخرى، التي تسير في ركاب هذين القطبين، إلا إذا جاء يوم – إن شاء الله – تعترف فيه هاتان القوّتان بخطئهما وتلتحقان بمسير الإنسانية وحبّ الإنسان واحترام حقوق الآخرين”. (الوصيّة السياسيّة، ص 96 – 97).

لقراءة إيجابيّات الطرح وإمكانياته العمليّة، من دون سجالٍ إيديولوجيّ، وقفنا في “أحوال ميديا” على آراء مجموعةٍ من المختصّين في قضايا الصين والعلاقات الدوليّة، واستطلعنا حيثيّات الاستراتيجيا الصينية إزاء العالم، والعالم العربي ولبنان بالخصوص.

ريّا: لبنان مهمّ في الرؤيا الصينية

 

في حديث لـ “أحوال ميديا” يرى الأستاذ محمود ريّا الخبير اللبناني في الشؤون الصينيّة (مدير موقع الصين بعيون عربية) أنّ أجواء العلاقات العربية واللبنانية مع الصين إيجابيّة وتعِدُ بالكثير، “فالمبادئ التي تحكم العلاقات السياسية الصينيّة مع دول العالم خمسةٌ، يأتي على رأسها مبدأ المساواة ومبدأ عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى، ما يعني أنّ الصين لا تميّز بين دولة كبيرة ودولة صغيرة في الواقع والممارسة؛ ولذلك تنشر سفراء في كثير من دول العالم، حيث تُعتبر الدولة الثانية عالمياً بعدد سفرائها”.

وأين يرى موقع لبنان في الاستراتيجيا الصينية؟

يلحظ ريّا أهميّة محدّدة للبنان حيث يقول: “صحيح أن لبنان دولةٌ صغيرة، لكنه دولة دورٍ وموقع قبل أن يكون دولة مساحة وحجم اقتصادي. والصينيّون مهتمّون بلبنان بسبب دوره الثقافيّ والتجاري والمالي، وبفضل موقعه في قلب العالم العربي وتواصله وقربه من أوروبا”.

ويُضيف ريّا: “عبّر الصينيون بشكل دائم عن اهتمامهم الكبير بإقامة علاقات مع لبنان تكون مؤسّساتيّة، وعميقة الأسس، وتنطلق من الشأن السياسيّ، لتتوجّه إلى القطاع الاقتصاديّ والاستثمارات والبنية التحتيّة وغيرها…”.

ويُشدّد ريّا على “أن هناك اهتماماً لدى القيادة الصينية بتنمية العلاقات مع الدول العربيّة والاستفادة منها، في سياق ما تقول إنّه “مجتمع المصير المشترك للبشرية”، موضحاً أنّ الكثير من المؤسسات البينيّة تثبت هذا التوجّه الصينيّ كـ “منتدى التعاون العربي – الصيني” و “مؤتمر رجال الأعمال العرب والصينيين” … وغير ذلك من المؤسسات”.

وبشأن التوجّس من الهيمنة الصينيّة يوماً ما، عبر التمدّد والتغلغل الاقتصادي، خصوصاً في إطار مبادرة “الطريق والحزام”، يرفض ريّا ذلك: “إذ الصين لا تسعى إلى التوسّع من خلال فرض النفوذ بل من خلال إنشاء علاقات متساوية، وفق مبدأ رابح – رابح”، كما أنّها “لا تسعى إلى فرض نموذج الصين في التنمية، في مقابل رفضها فرض الآخرين نموذجهم عليها. فكلمة التوسّع بمفهومها الغربيّ ليست في القاموس الصينيّ”.

وفي سياق الشواهد الإيجابيّة على سياسة الصين السلميّة، يستشهد ريّا بالتاريخ ليَجدَ “أنّ الصين لم تَغزُ في تاريخها الأمم الأخرى، ولم يُسجّل على الصين هذا النوع من الغزوات. بل يتمسّك المسؤولون الصينيون بمبدأ الجوار والتعاون بين الدول وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية”.

ضاهر: الصين غزت وغُزيت

لكن للدكتور مسعود ضاهر أستاذ التاريخ (رئيس الرابطة اللبنانية – الصينية للصداقة والتعاون) نظرة أخرى إلى التاريخ الصيني، إذ يقول: “كانت الصين تاريخياً إمبراطوريّة، وكلّ إمبراطورية تغزو وتُغزى. ولم يكن ثمة مؤسسات دوليّة كما هي الحال اليوم لتُلزم الدول بحدود معيّنة، بل كانت البلدان عُرضة للغزو والاحتلال في حالات ضعفها، وعُرضة للتوسّع في المقابل حين تكون قويّة، من دون أن تحدّها حدودٌ ثابتة كما هي الحال اليوم”.

ويرفض ضاهر سحب التجربة التاريخية للصين على حاضر البلاد اليوم، “فكل فترة تاريخيّة لها ظروفها وخصوصيّتها… فمن الخطأ سحب ظروف فترة تاريخيّة على فترة أخرى أو حديثة كما نحن اليوم”.

ويُشير ضاهر إلى آليّة التوسّع لدى الدول، والتي يُمكن تعميمعها عند توفّر ظروفها، فيقول: “في المبدأ، كلّ عصبيّة عندما تتلاقى مع المصالح تتوسّع، وفي مرحلة الضعف تنهار أمام عصبيّة أخرى تحلّ محلّها. فالصين قبل العام 1972 لم يكن لها هذا الحضور الذي نشهده اليوم، وكانت تعاني من ظروف قاسية اقتصادياً واجتماعياً، وكان حضورها الدولي ضعيفاً، لكنّها اليوم في مرحلة متقدّمة على المستويين الاقتصادي والسياسي…”.

نقولا: ما يصح في إفريقيا لا يصحّ في لبنان

ما بين التأييد، الذي تناله العلاقة اللبنانية – الصينية وسياسة الاتّجاه شرقاً، من دولٍ وأحزابٍ في عالمنا، وما بين النظرة السجاليّة إلى التاريخ الصيني، ثمّة قراءة أكاديميّة تقدّمها لـ “أحوال ميديا” الدكتورة ليلى نقولا، وترى فيها أنّه “من الصعب على لبنان أن يُطبّق استراتيجيا التوجّه شرقاً لعدّة أسباب، منها ما هو داخليّ، ومنها ما هو متعلّق بالصين والولايات المتحدة الأميركية. فثمة تشابكات لبنانيّة وعلاقات وروابط مع الغرب والولايات المتحدة ومساعدات كبيرة تأتي من هناك، في مقابل مساعدات قليلة جدّاً تأتي من الصين… ما يُصعّب على لبنان خيار التوجّه شرقاً. كذلك نجد أن الانقسامات وعدم الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ في لبنان يجعل الصين تتراجع لصالح عدم تحدّي الولايات المتحدة”.

وترى نقولا أرجحية للبنان في الميزان الاستراتيجيّ الأميركي في مقابل نظيره الصيني، وهو ما لا يسمح بعلاقات لبنانية مريحة مع الصين، وتقول: “لبنان قد لا يُشكّل بالنسبة إلى الصين نسبة كبيرة، لكنّه يشكّل أهميّة أكبر للولايات المتحدة لقربه من إسرائيل، التي تلتزم أميركا أمنَها بعيداً عن الاختلافات الحزبية الداخلية الأميركيّة. ولبنان موجود قرب سوريا والعراق، ما يسمح للولايات المتحدة بتشكيل كمّاشة بين لبنان والعراق لمحاصرة النفوذ الروسي في سوريا”.

أمام هذه الأفضلية في العلاقة الأميركية – اللبنانية، تنصح نقولا من موقعها العلمي بـ” تنويع الخيارات والاستثمارات، فذلك أمرٌ جيّد، في وقت العالم كلّه يتوجّه شرقاً، على أن تكون القاعدة الحاكمة في المجال أنّ مصلحة لبنان أولاً”.

ولا تجد نقولا أن التطورات في الاستراتيجيا الأميركية باتّجاه الشرق الأقصى ستُخلي المنطقة العربية للنفوذ الصيني، فكون الولايات المتّحدة دولة عظمى يعني أنّها ستكون ذات نفوذ راسخ في كل المناطق الحيويّة في العالم حتى لا يتحوّل الشرق الأوسط إلى منقطة فراغ استراتيجي”.

وتُسجّل نقولا اعتراضاً على المقارنة بين التمدّد الصيني في إفريقيا والوضع في لبنان وغرب آسيا فتقول: “منطقة غرب آسيا ليست في أولويات الصين لأنها لن تدخل في سياق مواجهة وتحدٍّ للولايات المتحدة الأميركية. فالصين ترغب في استثمارات اقتصادية سهلة، ولها فيها مصلحة ومنفعة متبادلة مع الشركاء، من دون اشتباك سياسيّ أو عسكريّ أو اشتباك نفوذ مع الولايات المتحدة…” وذلك يصحّ في إفريقيا ولسيت الحال في غرب آسيا ولبنان.

صليبا: فلسفة الصين مسالمة ومرنة

ولاستكمال الصورة الصينية في الرؤيا اللبنانية، كان من المفيد الاطلاع على عقائد الأمّة الصينية ورؤية مدى اتّسامها بالتّسامح والسّلام بما يُعزّز القناعة بسياسة الاتّجاه شرقاً، وكان حديث مع الدكتور لويس صليبا (مستهند وأستاذ في علوم الأديان والدراسات الإسلامية وأديان الشرق الأقصى).

ينظر صليبا بإيجابية إلى الخلفيّة الدينيّة والفلسفيّة للسياسة الصينيّة، في وقت يعزو الجانب العنفي إلى الإيديولوجيا الشيوعية، ويقول: “أنا لا أرى في مذهب وديانة كونفوشيوس منحى هجوميّاً، وهو ما لا أراه في فلسفات الهند كذلك. فلسفات الشرق الأقصى عموماً كانت بصورة أساسيّة فلسفات مسالمة لا عنفيّة… والصين كانت معزولة عن بقيّة أنحاء العالم. إجمالاً لم تطمح، عبر تاريخها، إلى أن تحتلّ أجزاء أخرى من العالم، هذا إذا وضعنا مسألة التيبت المعاصرة جانباً، وهي إضافة إلى مسألة تايوان نتاج النظام الشيوعي في الصين، لا الكونفوشسية”.

وفي التفاوت بين العقائد الدينية الصينيّة والإيديولوجيا الشيوعية، يشرح صليبا مزيج العقائد الصينية فيقول: “الفلسفة الصينية تقوم على ركائز فلسفية ودينية ثلاث: الركيزة الأولى هي فلسفة كونفوشيوس، والثانية فلسفة معاصره لاوتسو الذي ترك كتاباً شهيراً هو كتاب “الطاو”، وهو مؤسّس ما يمكن أن نسمّيه الديانة الطاوية. أمّا الركيزة الثالثة فهي الديانة البوذيّة الآتية من الهند، والتي امتزجت واندمجت بالطاوية وتفاعلت معها، فأنتجت البوذية الصينية بميّزاتها الخاصّة”.

ويوضح ميزة فلسفة كونفوشيوس، فيقول: “جاءت فلسفته عبارة عن علم أخلاق ومعاملات، وخريطة طريق لمسلك المؤمن. وكونفوشيوس لم يتناول الأبعاد الماورائيّة وقضايا ما بعد الحياة الدنيا، بل اكتفى، في هذا الصدد، بنقل العقائد الأساسيّة التي كان الصينيون يؤمنون بها منذ الأجداد”.

ويخلص صليبا إلى أن “العقيدة في الصين اليوم هي مزيج من الإرث الديني القديم من الكونفوشيوسيّة والطاويّة والبوذيّة والشيوعيّة”، ولذلك يرى “الصين أكثر مرونة وأكثر براغماتيّةً على الصعيد الديني، لأنّه ليس الدين عاملاً رئيساً في تفكيرها وفي رؤياها للأمور. ومرونتها هذه تنسحب على المجالين الاقتصادي والثقافي”.

ويستنتج “أن الصين تنجح أكثر من الولايات المتحدة في علاقاتها مع العرب..وطريقتها لطيفة، بلطف طبعِ أبنائِها وهدوءِ مزاجِهم، وإن كانت كثيراً ما تُبطن خلاف ما تظهر. وسياسة الصين الخارجية بعيدة عن إرث الاستعمار وفرض الإرادة والمصالح الاقتصادية بالقوّة وغطرسة في النظرة إلى الآخر”.

يبقى أن التوجّه شرقاً أو اللحاق بالغرب قرار لبناني في نهاية الأمر، ومرهون بآليات الحوار والتوافق والمصالح الوطنيّة، قبل أن يكون قرار الدول الأجنبيّة وسياساتها التوسعيّة.

طارق قبلان

مجازٌ في الصحافة واللغة العربيّة. كاتب في السياسة والثقافة، وباحث في اللهجات والجماعات الإسلامية والحوار الديني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى