الحياد الراهن: انحياز لطرف خلاف النأي بالنفس
نشأ لبنان الحديث عام ١٩٤٣ على مبدأ انقسام الانحياز، حتى وقعت تسويته على قاعدة الحياد، فيما الحياد كان مشروطاً بأن لا يكون لبنان “للإستعمار ممراً ولا مستقراً”. ووقعت تطورات كبيرة، عاشت المنطقة ككل تداعياتها، ولبنان منها، منذ وفود الغرب الاستعماري إلى الشرق صاعداً على تركة الامبراطورية العثمانية المتراجعة نحو السقوط. ولم تترك سلسلة الصراعات غير المتوقفة منذ مطلع القرن الفائت، أيّ منطق عقلاني، ولا مفهوم ثابت. ورغم الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين كانتا ساحة الصراع، وبظلّ التنافس بين الدول الاستعمارية على النفوذ والتمدّد عالمياً، شهد الغرب الاستعماري بعد الحربين هدوءاً شبه تام كان كافيا ليبني نفسه، ويصعد بقوة نحو التقدم، والتطور على مختلف الصعد، ما لم يُتحْ لدول عالمنا المشرقي، والعربي بصورة عامة.
غير أنّ لبنان عاش فترة الاضطرابات والتوترات بصورة متواصلة ما لم يعشها سواه إن من دول المشرق العربي، أم دول العالم العربي، أم العالم ككل. ميزته غير الممتازة أنّه ساحة الصراع الدائم دون هوادة.
ولو شئنا إعادة التساؤل الذي بات من بديهيات لبنان، سبب هذا التوتر الدائم فيه، والإجابة واضحة في التطورات المتعاقبة، وتتلخص بتكريبته التي اختارها المستعمر الفرنسي له لكي يكون جسر لبنان عبور يحقّق مصالحه. وباتت بعض ركائز التسوية اللبنانية واضحة، وهي قامت بداية على فئتين كبيرتين هما الموارنة، كوجه لبنان الغربي، والسنّة كوجهه العربي. في لحظة التأسيس، ووفق التسوية التي وضعت بقوة المستعمر ورغبته، تسلّم الموارنة زمام القوة في السلطة، على أن يتاح للسنّة الرافضين الانفصال عن محيطهم، حيازة قوة في السلطة، تقارب بأهميتها القوة السلطوية المارونية.
أسس الصيغة وضعت العام ١٩١٨، وانطلقت وصولا إلى عام ١٩٤٣، وعلى الطريق خمس وعشرون عاما من المخاض، موارنة متمسكون بالفرنسي، ومسلمون ما انفكوا يرفضون الانسلاخ عن عالمهم العربي الإسلامي، وظلّ الانقسام ساريًا حتى بلوغ اللحظة الحاسمة لانطلاق مشروع الكيان اللبناني بتسوية ١٩٤٣ التي أعلن الموارنة فيها التخلي عن الحماية الفرنسية، وتخلّى فيها المسلمون عن فكرة الوحدة والانضمام إلى سوريا. وأُرسي الكيان على مبدأ “لا شرق ولا غرب” وهذا يُعتبر في مضمونه شكلاً من أشكال الحياد، على أن لا يكون لبنان “للإستعمار ممراً ولا مستقراً” وهي معادلة اشترطتها السلطات العربية، وتبناها مسلمو لبنان، ورضي به الموارنة، والتزموا بها.
أول مبدأ في الحياد اللبناني طُرح في البيان الوزاري لأول حكومة استقلالية برئاسة رياض الصلح بتاريخ ٢٥ أيلول ١٩٤٣، وجاء فيه: “لبنان ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب”، أي أنّه حيادي لا ينتمي إلى أي من الشرق أو الغرب، وجهه فقط عربي، وليس غربياً بل يأخذ النافع من حضارة الغرب.
هكذا تركيبة ديموغرافية -سياسية انطلقت على مبدأ الحياد بالعرف والتوافق، لكن من دون قوانين وأسس الحياد المتعارف عليها في العالم، وفق قوانين الأمم المتحدة، والقانون الدولي. إنّه حياد داخلي يربط الأطراف الداخلية بمواقف تلجم اندفاعة أي منها باتجاه الحلفاء الخارجيين على حساب الوحدة الوطنية المفترضة.
لكن سرعان ما سقطت المعادلة وأولى تجليات ذلك السقوط أحداث ١٩٥٨ (الثورة)، يوم خرق مفهوم الحياد موقف رئيس الجمهورية كميل شمعون الماروني، بانضمامه إلى حلف بغداد، ومعاداته لحركة جمال عبد الناصر. في هذا الموقف لشمعون، يمكن القول إنّ المارونية السياسية خرقت مبدأ الحياد المتفق عليه بنقطتين: الأولى، انحيازه إلى حلف دولي معين، والثانية، انخراطه في صراع الأحلاف.
أسقط كميل شمعون مفهوم الحياد، وأسقط معه مقولة “لا شرقية ولا غربية”، كذلك مقولة “لن يكون ممرا للمؤامرة ولا مستقراً”.
في الآونة الأخيرة، ومع محاولات التحالف الغربي تصعيد المواقف الدولية في لبنان، وضده، طرحت بعض أطراف السلطة الحياد، واللافت أنّ الذي طرحها هم قوى من المارونية السياسية، وراح يروّج لها البعض في ظرف تتعرّض فيه فئة لبنانية لمحاولات تحجيم وتصفية، وكأنّ طرح الحياد جاء ليمنع حماية المقاومة من أي حليف خارجي، دون أن يمنع ذلك، أو يؤمّن حياداً بديلاً بمنع تدخل الآخرين في الشأن اللبناني.
وجاءت بفكرة “حياد” بعض القوى السياسية، وكأنّها لجم لطرف داعم للمقاومة، تاركة الحرية للسفارات الأجنبية التدخل في لبنان، إلى أن وقع انفجار المرفأ، فإذ بالبوارج الحربية الأميركية والبريطانية والفرنسية تملأ المرفأ، ولم يجد الحياد صدى له بمنع دخول هذه الأساطيل إلى لبنان.
الحياد الذي يجري طرحه هو انحياز جلف ومكشوف، يمنع طرفاً من التدخل، ويتيح لأطراف أن تستبيح البلد كيفما تشاء دون كلمة ردع.
وفكرة الحياد الإيجابي لعبها رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق نجيب ميقاتي، وهي كامنة في فكرة “النأي بالنفس” التي طاولت كل اللبنانيين، وهدفت بالفعل لتحييد لبنان عن الصراعات المندلعة في المنطقة. وطرحها الرئيس ميقاتي بعد دخول سوريا في الحرب الأهلية، وشروع قوى من مختلف أنحاء العالم خرق الحدود السورية والزج بميلشياتها في الحرب.
وأدرك الرئيس ميقاتي مخاطر اللعبة، وقد لمس تدخل مختلف الدول الإقليمية والدولية في الساحة السورية، موقف كان مثيله في العادة ينعكس سلباً على لبنان، كما في أحداث ١٩٥٨، و١٩٦٧ (النكسة)، والحرب الأهلية، والاجتياح الاسرائيلي، بلوغاً لذروة الانحياز في ٢٠٠٥ على أعتاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أحداث كثيرة وقعت في المنطقة، وانعكست خللاً في لبنان الذي دفع ثمنها مراراً، وأدركها الرئيس ميقاتي، فحاول منع انخراط لبنان في الساحة الاقليمية، وسارع إلى طرح “النأي بالنفس”، الذي حيّد لبنان من الدخول المباشر في الصراع السوري، ونجح الطرح إلى حد بعيد، وبقي لبنان خارج الإتهام الدولي له بالتدخل، وما جرى من تدخل، فلم يكن مشرعناً، وكان خارج قرار الدولة، ولم يورّط البلد بصراعات داخلية على غرار ما جرى في مواقع سابقة في فترات مختلفة.
سمير الحسن