ربما لم يلحظ البعض أن المقال في صحيفة النيويورك تايمز في أيلول 2019 الذي تناول تفاصيل دفع رئيس مجلس الوزراء السابق سعد الحريري ست عشرة مليون دولار إلى عارضة أزياء سبق الثورة بأسبوعين، أي قبل استقالة الحريري بثلاثة أسابيع.
شُنّت هجمة تويتريّة على “بن هابرد”، كاتب المقال، وتمت شيطنته لنشره خبرا يعود إلى العام 2013. فعلّق قائلاً: “لقد وصلتني المعلومات في هذا التوقيت، فكتبتها.”
لافتٌ كان التّوقيت. تأثيره لم يكن محلّيا فقط، ومن غاب عنه ذكر الحريري قبل الحادثة بات يردّد الواقعة.
“شعبُكم جائع والحريري يدفع 16 مليون لعارضة أزياء” يقول ضاحكاً سائق تاكسي بريطاني.
معلومة واحدة كانت كفيلة بتكوين صورة لدى الرّأي العام قد لا تُنسى مع مرور الزّمن. لن يذكروا إنجازاته طبعا، ولن يجِدوا واحداً حتى لو غاصوا في نبش دفاتره.
لكن السّؤال يكمن في توقيت وصول المعلومة. فمن وراءها؟
سربت المعلومة لـ “هوبارد” في حين كان الصراع الإيراني الأمريكي في أوجه وسقوط الحكومتين العراقية واللبنانية كان متلازماً.
النقطة الأهم هي أن الأمريكي وحده المسيطر على حركة انتقال الأموال حول العالم. اذاً من سرّب خبر الـ 16 مليون في هذا التوقيت وما هي الغاية؟
حينها، الفتور بين طهران وواشنطن بدا واضحا على الساحة اللبنانية بعدما أسقط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الإتفاق النووي الإيراني معيدا بذلك خلط الأوراق في المنطقة، واستقالة الحريري كانت جزءا من اللعبة، كما كانت تسميته رئيسا قبلها.
كالعاصفة كانت وطأت الخبر على الحريري فكان أوّل من فهم الرسالة، واطاع.
على الجميع أخذ التنافس الإيراني الأمريكي بعين الاعتبار قبل تحليل المستجدات على الساحة اللبنانية. من تغيير رئيس، إلى سقوط اتفاق، مرورا بالتشنجات وعصف المتغيّرات. فكلّ تلك التموّجات لا تبدّل باستمرار التّواصل والتّفاوض ولو بالنار.
مخطئ من توهّم أن الأساطيل القادمة تسعى لإسقاط حزب الله. البوارج الدولية والإقليمية أتت كجزء من الصراع على البحر المتوسط.
في واقع الأمر، النفوذ الجيوسياسي التركي المتصاعد الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من خلال التدخل في الحرب السورية والليبية بشكل مباشر ومحاولته السيطرة على المتوسط من خلال القواعد العسكرية في طرابلس دفع فرنسا إلى التحرك. دعمت الحلف العربي المتمثل بالمملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة ومصر، وساندت اليونان، العدو التاريخي للعثمانيين.
وترافق انفجار مرفأ بيروت مع احتدام المنافسة على السيطرة على البحر المتوسّط ما أسهم في تدفّق أساطيل الدول المتنافسة محملة بالمساعدات للبنان علنا والرّسائل لخصومها ضمناً.
مخطئ أيضاً من يعتقد أن حزب الله يهرّب أسلحته عبر مرفأ بيروت. فقد دفع آلاف الشهداء في سوريا من أجل إبقاء خطّ الإمداد البرّي من إيران مفتوحاً وهو ليس بحاجةِ المرفأ. وحتّى لو أراد ذلك ليس بمقدوره. المرفأ مراقب ولا إمكانية للقيام بأي عمل سرّي دون اكتشافه. فهو ساقط أمنيا ومكشوف وتحت مجهر ورادارات قوات اليونيفيل البحرية.
لنفترض أن شحنة نيترات الأمونيوم كانت في طريقها إلى حزب الله. من قال أن الأمريكي لن يطلب تنازلات مقابل غض النّظر أو تحويل مسار التحقيقات؟ سوق السّياسة كسوقِ الخضار، هناك بائع وشارٍ، ويبقى السّوق وسعر الخضار رابطا بين الإثنين.
من قال أن الأمريكي يريد مواجهة مع إيران؟ والعكس صحيح. الأمريكي لم يعد يكترث للشرق الأوسط كما يتوهّم البعض.أنظاره فقط متّجهة على المواجهة مع الصين.
يذكر الدبلوماسي الأمريكي وليام بيرنز في كتابه “القناة الخلفية” (The Back Channel) كيف كان أوباما يريد الانسحاب كليا من المنطقة لكن أُجبر على البقاء بعد بدء الرّبيع العربي لتحصيل ما يمكن تحصيل في ما قد يأتي من صفقات لاحقاً. لذلك أولويته هنا فقط ضمان أمن إسرائيل، وأول الشروط تسليم الصواريخ الدقيقة التي هي بحوزة حزب الله.
رغم خطورة الأسابيع المقبلة بانتظار نتائج الانتخابات الأمريكية، ومصير التسوية التي يطرحها الرئيس الفرنسي إيمانويل، يبقى احتمال المواجهة العسكريّة ضئيل ولا يبدو أن هناك بوادر مفاوضات بالنار، إنما هناك مفاوضات بالشارع كانت قد انطلقت مع بدأ التظاهرات وتحوّلت إلى مواجهات أحيانا.
لكن المواجهة القادمة لن تكون لطيفة نسمتها كسابقاتها، فبعد الاتهامات الموجهة إلى حزب الله والتهجم على أمينه العام، يبدو أن جمهوره محقون بانتظار غزوة جديدة، إذا حدثت، تجاه “رينغٍ” جديد أو ساحةٍ مُستجدّة.
الأكيد أن خطوط التفاوض ستبقى، كما كانت دائماً، مفتوحة من عُمان إلى سويسرا وألمانيا وفرنسا. وعند الاتفاق، قد تُنسى العارضة كانديس فان دير مروي ويعود الحريري إلى “عرش” الرّئاسة أو من يُسمّيه بالشراكة مع حزب الله، وبمباركة أمريكية وإيرانية. لذلك على الجميع إعادة حساباته كي لا يقع في الخطيئة عند انعقاد تسوية أخرى كسابقاتها.
لا يعلم أحد مع أي بزوغ فجر قد ترحل البوارج على ماءٍ زخار، ويُعيدُ هدوء التسويات الماءَ إلى الركود.
هادي وهاب