وصل حال معظم اللبنانيين إلى حالة من القهر النفسي والموت المعنوي وهم يعيشون يومياً ولحظة بلحظة واقعاً اجتماعياً ومعيشياً مأساوياً؛ مع تعميق هوة الأزمة وارتفاع الجدار الإسمنتي أمام الحل المنشود، في ظل طبقة سياسية همها تلتهم ما تبقى من وطن مذبوح، بفعل سكاكين قوى سياسية لم ترقَ بعد إلى مستوى الوطنية والإنسانية.
يُضاف إليها تجار محتكرون جشعون- استغلوا غياب السلطة المركزية ودورها الطبيعي في حماية لقمة معيشة مواطنيها – ليمارسوا أسوأ أنواع “أكل” اللحم البشري لأهاليهم وأقاربهم وجيرانهم بفعل جشعهم اللامتناهي في احتكار ضروريات الحياة ورفع أسعارها. والعجيب أنّ بعض المواطنين السذّج يتراقصون طرباً عند كل ارتفاع في سعر صرف الدولار مقابل الليرة ظناً منهم تحقيق بعض الأرباح الوهمية من حفنة دولارات قذرة في جيوبهم يضاربون بها وهي تخلق جوعاً وفقراً متزايداً بهم، وهم يشعرون ولا يتأثرون. ويتهمون السوق السوداء عند كل ارتفاع للدولار بالجنون والسواد يمتلئ قلوبهم وضمائرهم المجنونة.
شعب تم تجويعه وإفقاره
إنّ المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية جميعها تنذر بالخطر العظيم ولا تحتاج إلى خبير لتحليلها وتبيان آثارها؛ فالواقع الاجتماعي أكبر خبير ومحلل لها، مع تزايد نسب الفقر والبطالة والتشرّد والانتحار والسرقة والتحلّل المجتمعي. ولأول مرة في تاريخ المنظمات الدولية سيفشلون في تقديراتهم وحساباتهم عن الوضع اللبناني.
لن يجوع نصف الشعب اللبناني كما قدّرت الأسكوا بل سيصيب الجوع أكثر من ذلك بكثير، ولن تصل نسبة الفقر 55% كما قدّرها صندوق النقد الدولي بل ستتخطى 75%. الشعب اللبناني سيجوع ويفقر ليس بسبب غياب الموارد والمقوّمات التي يمتلكها، بل جُوِّع وأُفقِر بسبب إدارة سياسية فاسدة مفسدة، أدارت دفة السفينة وأحدثت بها الثقوب والخروق، ولم تجد من يردعها عن غيّها وفسادها طيلة عقود فغرقت وأغرقت من فيها.
التسوّل والبطاقات التموينية هوية لبنان الجديدة
والأنكى من ذلك، أصبح التسوّل صفة وركيزة من خصائص الاقتصاد اللبناني وماليته العامة. وانتهى زمن الرفاهيات والكماليات، ومن يستطيع تأمين متطلباته الأساسية فهو من سلالة “عنترة” الأبية. وستحلّ البطاقة التموينية محل الهوية وإخراج القيد للتعريف عن لبنان الجديد، في زمن الثورة الصناعية الرابعة؛ وسيصبح صندوق الإعانة والمواد الغذائية هو رمز الهوية بدل الأرزة الشامخة، ومن ينل إعانات أكثر سيكون مواطناً من الدرجة الأولى، وسيروي لأبنائه وأحفاده بطولاته في شطارته وتميّزه عن غيره في الحصول على هذه الإعانات. عندها فقط سيتحقّق ما عجزت عنه كل العهود السياسية، وهي إلغاء الطائفية السياسية والذهنية المذهبية حيث سيتساوى الجميع في الفقر والمهانة والوقوف في طوابير الذلّ للحصول على التموين والإعاشة ورغيف الخبز.
الحكومة أولى خطوات الحل
وما يزيد من الطين بِلّة أنّ مفتاح الخلاص وفرملة الانهيار عند حده الحالي مرتبط بنفس الطبقة السياسية المسؤولة عنه. فينطبق عليهم المثل “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”.
إنّ ما يغذي تدحرج الانهيار نحو قعر الهاوية هذا التراشق السياسي والتناحر بين مسؤولين يدّعون نذر أنفسهم لخلاص لبنان وقيامته، فإذ بهم يعملون مبضعاً قاتلاً في جثته الهامدة. إنّ انفلات الدولار من عقاله سيدوم، وانفلاش الأسعار ستجمح نحو العلا ورفع الدعم على الأبواب، والمسؤولون عن البلاد والعباد يتقاذفون العراقيل والعقبات. وكلّ يغني على حساباته الداخلية الضيقة وارتهاناته الخارجية التدويلية المفتتة للدولة والكيان. صرخة يجب أن تصدح من كل حناجر اللبنانيين ” كفى”. وإلا فإنّ الهيكل إذا سقط، سيقع على رؤوس الجميع دون استثناء، ولا فرق عندها لمسلم ومسيحي ولا سنّي وشيعي إلا بدرجة الفقر والجوع.
إنّ ما يعيشه اللبنانيون اليوم يتطلّب أقصى حالات الاستنفار والطوارئ من قبل المسؤولين والطبقة السياسية بأكملها لإنقاذ ما تبقى من وطن غريق وشعب مذبوح. وإنّ تأليف حكومة يجب أن يكون من أولى الأولويات مما يتطب السهر ليلاً نهاراً، وأن لا يرتشف جبين المسؤولين عن ذلك قبل تحقيق هذا الأمر بغص النظر عن شكلها وحجمها، لأنّها الخطوة الأولى في فرملة الانهيار، على أن تُستكمل لاحقاً بالنهوض الاقتصادي والمالي. وهذا لن يتحقق بوجود نفس هذه الطبقة السياسية الفاسدة، وهنا يقع العب الأكبر على الشعب اللبناني عند الانتخابات النيابية في اختيار ممثليهم وفق معايير وطنية واضحة وشفافة ونظيفة، وإلاّ نحن نهرول بخطى متسارعة نحو قعر الانهيار. وبذلك ننادي: “أليس فيكم رجل رشيد”.
د. أيمن عمر