سياسة

العراق: الدولة على محك اعتزال الصدر

سلبت التطورات المقلقة في العراق أهمية ما عداها من الأحداث في المنطقة، فالبلد المتخم بالجروح والانقسامات المخيفة والسلاح دخل في منعطف خطر على أبواب الفوضى أو الاقتتال، بعد بلوغ الأزمة السياسية ذروتها تحت عنوان “اعتزال مقتدى الصدر العمل السياسي”.

بعد انهيار نظام صدام حسين عام 2003 وجد الصدر المساحة الفارغة لشغل موضع له في العمل السياسي بوصفه زعيماً دينياً. ومنذ ذلك الحين نسج الصدر صورة رجل الدين في قلب المطبخ السياسي، محتفظاً بمكانته الدينية الموروثة.

منذ بروزه تحوّل الصدر إلى كتلة حوادث سياسية ومجموعة تحوّلات في عراق ما بعد صدام حسين، فقد تزعّمَ المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأميركي، وقاد حرباً طائفية في بغداد، وخاصم نوري المالكي في معركة “صولة الفرسان” في البصرة، وهو نفسه حليف السنّة والكرد ضد أصدقاء الأمس من القوى الشيعية. ورغم هذه التركيبة المربكة شارك الصدر في جميع الحكومات التي تشكلت بعد 2003، وفي الوقت ذاته يقود الاحتجاجات الشعبية ضدها.

إنه المثال الاستثنائي لصاحب مسار “ثنائي القطب” في العمل السياسي، حافظ على زخم دعم الموالين له طوال هذه السنوات، ولا يبدو أنه سيتخلى عن فوائد هذه الثنائية بينما يواجه خصومه في الإطار التنسيقي رغم اعتزاله بحسب المحللين.

الزعيم الشيعي الغاضب “الثائر” على ما لا يُرضيه دائماً يحتفظ تحت هالة رجل الدين، بدور يشكل كفة راجحة في التوازن السياسي في البلاد، وأظهر لخصومه السياسيين أنه يتمتع بقاعدة شعبية واسعة وقادر على حشد مناصريه وخلط الأوراق في المشهد السياسي.

هي ليست المرّة الأولى التي يعلن فيها مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي، بل السابعة!. لكن بخلاف المرّات السابقة، بدا هذه المرّة وفي محاولة لكسر التوازن الذي قام عليه الحُكم مذّاك، وفرْض إرادته على القوى الأخرى، سواء في “المكوّن الشيعي”، أو في “المكوّنات” الأخرى.. وكأنه إعلان إطلاق العنان لمؤيّديه للتحرّك من دون ضوابط، ليضع البلد أمام  منعطف خطر على الأمن والاستقرار في بلاد الرافدين.

اشتعال العنف

في احتجاجات عنيفة أشعلها إعلان الزعيم الصدري “اعتزاله” العمل السياسي وتخلّلها اقتحام جمع من المحتجّين القصر الحكومي وأعقبتها ليلاً اشتباكات بالأسلة الرشاشة وقصف بقذائف الهاون، قُتل ما لا يقلّ عن 30 شخصاً وجرح حوالي 700 معظمهم من أنصار مقتدى الصدر بالرصاص الحيّ من بينهم 110 من أفراد القوات الأمنية في المنطقة الخضراء بوسط بغداد الإثنين.

وفي حين فرض الجيش حظر تجول عاماً، سمعت ليلاً رشقات رشّاشة كثيفة ودويّ انفجارات في المنطقة الخضراء الشديدة التحصين والتي تضمّ العديد من المقرّات الحكومية والسفارات.
وأفاد مصدر أمني أنّ مسلّحين من “سرايا السلام”، التنظيم المسلّح التابع للصدر، أطلقوا النار من خارج المنطقة الخضراء على أهداف داخلها.

وأضاف أنّ القوات المتمركزة داخل المنطقة الخضراء، ردّت على مصادر النيران هذه. واستُهدفت المنطقة الخضراء مساء الإثنين بشكل خاص بسبع قذائف هاون على الأقلّ، بحسب المصدر نفسه.

وأعلن الجيش فرض حظر تجوّل في بغداد اعتباراً من الثالثة والنصف بعد الظهر ومن ثم في جميع أنحاء العراق في السابعة مساءً وسُيّرت دوريات للشرطة في العاصمة، بعد أن تعمّقت الأزمة في العراق الذي يعيش في مأزق سياسي منذ انتخابات تشرين الأول 2021 التشريعية.

وقال مصدر أمني إن قوات الأمن تدخلت وأطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين عند مداخل المنطقة الخضراء المحصنة، فيما اجتاح أنصار الصدر غرف المكاتب وجلسوا على الأرائك أو قفزوا في المسبح أو راحوا يلتقطون صور “سيلفي”.

“تصعيد خطير”
ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأطراف العراقية إلى “ضبط النفس” و”اتخاذ خطوات فورية لتهدئة الوضع”.

وقال غوتيريش في بيان إنّه “يتابع بقلق التظاهرات ويدعو إلى الهدوء وضبط النفس، ويحضّ كلّ الجهات الفاعلة ذات الصلة على اتّخاذ خطوات فورية لتهدئة الوضع وتجنّب العنف”.

بدورها، دعت بعثة الأمم المتحدة في العراق، ومقرّها داخل المنطقة الخضراء، المتظاهرين إلى مغادرة المنطقة، وحثّت جميع الأطراف على التزام “أقصى درجات ضبط النفس”.

ووصفت البعثة الوضع بأنه “تصعيد شديد الخطورة”، محذّرة من أنّ “بقاء الدولة نفسها بات على المحك”.

وفي واشنطن، وصف البيت الأبيض الوضع بأنّه “مقلق” ودعا إلى الهدوء والحوار.

وفي القاهرة، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كما نقل عنه المتحدث باسم الرئاسة بسام راضي “اتابع باهتمام الموقف الراهن بالعراق، وأحزنني ما آلت اليه التطورات الحالية في هذا البلد الشقيق”.

وأكد السيسي “دعم مصر الكامل لأمن واستقرار العراق وسلامة شعبه الشقيق”، داعياً “كافة الاطراف العراقية الى تغليب المصلحة العليا لوطنهم من أجل تجاوز الأزمة السياسية عبر الحوار وبما يحقق الاستقرار والأمن والرخاء للعراقيين”.

حظر تجول وفراغ سياسي
وبدا أنّ حظر التجول مطبّق في وسط بغداد مساء، إذ فرغت الطرقات من المارّة والمركبات.
لكنّ الاضطرابات انتقلت إلى مناطق أخرى، ففي محافظة ذي قار في جنوب العراق، سيطر أنصار الصدر على كامل مبنى ديوان المحافظة الواقع في مدينة الناصرية.

وفي محافظة بابل جنوب بغداد، أكد شهود أن متظاهرين من أنصار التيار الصدري سيطروا على مبنى المحافظة في مدينة الحلة. وقطع آخرون الطرق الرئيسية آلتي تربط مدينة الحلة، مركز المحافظة، بالعاصمة بغداد وباقي المحافظات الجنوبية.

ومنذ قرابة سنة، لم تتمكن الأقطاب السياسية العراقية من الاتفاق على اسم رئيس الوزراء الجديد، ومن ثم، فإن العراق، أحد أكبر منتجي النفط في العالم، ما زال بدون حكومة جديدة أو رئيس جديد منذ الانتخابات التشريعية.

وللخروج من الأزمة، يتفق مقتدى الصدر والإطار التنسيقي على نقطة واحدة هي الحاجة إلى انتخابات مبكرة جديدة. لكن فيما يصر مقتدى الصدر على حل البرلمان أولاً، فإن خصومه يريدون تشكيل الحكومة في البدء.

ومساء الاثنين، ندّد الاطار التنسيقي بـ”الهجوم على مؤسسات الدولة” داعياً أنصار الصدر إلى “الحوار”.

وبعد اجتياح القصر الحكومي، علّق رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي اجتماعات مجلس الوزراء “حتى إشعار آخر”، ودعا إلى اجتماع أمني طارئ في مقر القيادة العسكرية، بعد أن دعا مقتدى الصدر إلى “التدخل بتوجيه المتظاهرين للانسحاب من المؤسسات الحكومية”.

اعتزال بعد جدال

وعلى نحو مفاجئ، قال الصدر في بيان مقتضب الاثنين “إنني الآن أعلن الاعتزال النهائي”. كما أعلن إغلاق كافة المؤسسات المرتبطة بالتيار الصدري “باستثناء المرقد الشريف (لوالده محمد الصدر المتوفى عام 1999)، والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر”.

وتصدّر التيار الصدري نتائج الانتخابات الأخيرة ليشغل 73 مقعداً (من 329 مجموع مقاعد البرلمان)، لكن عندما لم يتمكن الصدر من تحقيق أغلبية تمكنه من تشكيل حكومة، أعلن في حزيران/ يونيو استقالة نوابه في البرلمان.

وبتوجيه من الصدر، طالب أنصاره المعتصمون أمام البرلمان منذ نحو شهر بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة من أجل السير بالبلاد على طريق الإصلاحات.

ويدعو الصدر إلى “إصلاح” أوضاع العراق من أعلى هرم السلطة إلى أسفله وإنهاء “الفساد” الذي تعاني منه مؤسسات البلاد.

من جانبه، قال الخبير الأمني والاستراتيجي فاضل ابو رغيف لوكالة فرانس برس، رداً على سؤال عن هدف التيار الصدري، إن “الهدف هو إرغام الزعامات السياسية التي تمسك سلطة البرلمان والحكومة على حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة”.

ورأى أن “العراق ذاهب الى مزيد من الانسداد والاحتقان”. مع ذلك، استبعد الخبير وقوع نزاع مسلح ، قائلاً “لا أعتقد ان الأمور تصل الى حد الاقتتال وسفك الدماء ” بين الاحزاب الشيعية.

الشارع العراقي في حالة غليان، كون الأحزاب الحاكمة لا تتنازل عن مشاريعها وهي ساعات حرجة للنظام، فإمّا يتم اتفاق على العملية السياسية وتجديد الطبقة الحاكمة أو فوضى عارمة تؤدّي إلى الاقتتال، الذي لا يوقفه سوى طهران وواشنطن!.

رانيا برو

صحافية وكاتبة لبنانية. عملت في مؤسسات اعلامية لبنانية وعربية مكتوبة ومرئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى