هل تساهم الكوميديا اللغويّة في إحباط طلاب اللغة؟
من ذا الذي لم يشاهد مدرّس اللغة العربيّة “رمضان مبروك أبو العلمين حمودة” للنجم المصري “محمد هنيدي” فلم يتأثّر بالمشهد المخزي الذي وضع فيه التلاميذ معلّم العربيّة؟!
ومن ذا الذي لم يتابع “الأستاذ مندور” (الممثل جورج دياب) وشخصيّته الصّارمة، في عمل للكاتب مروان نجّار؟!
أمّن ذا الذي فوّت توجيهات عادل كرم اللغوية الأجنبيّة في “مستر لغات”، يُصيب بها عباس شاهين القابض على اللغة من الأزقة وحديث العامة؟! ولعل عباساً من حيّز جغرافي لا يُقيم مع اللغة الأجنبية صلات وثيقة؟!
كلّ تلك الأعمال الفنيّة لا تُظهر اللغة في أحسن أحوالها، ولا أهلها كذلك…لكنّها أضحكتنا!
وهل يُمكن الناسُ التعارفَ من دون لغة؟!
وهل للّغة أن تُكتسب كيفما اتّفق؟!
وهل اللغة موضوع هزل وسخرية مهما تفاوتت المستويات وضعفت الدقّة في لفظ الصوت وإيصال المعنى، مع ملاحظة أن الدلالة لا تقتصر على الحرف، بل تشمل أنظمة دلالية أخرى؟
لكنّ فناناً يجدُ في نفسه ريادةً، ثمّ يقع على أنموذج لغويّ “منحرف”، فيتّخذه استخفافاً عملاً فنيّاً، مسموعاً أو مرئيّاً، ويكرّس لدى العامة من الناس أنموذجاً سيئاً يتندّرون به … وهم ما بين تندّر وتسلية يكرّسون الخطأ، و”يحبّون أن تشيع الفاحشة” في الذين اعتنقوا اللغة.
سيقول البعض إن اللغة كغيرها من الموضوعات يُمكن للفنان تناولُها في حالاتها الإيجابية، من دون التغاضي عن واقعها السلبي من الجانب الآخر، ويناقش في موجبات التناول، ويستطيل…
لكن اللغة قضية وجودية، ومرضُها مرضُ لسان وهُويّة، ثم افتقار إلى الأنموذج والكمال.
من هذه النقطة “الخطرة” أحببنا إثارة هذا الموضوع، الذي شكّل ظاهرة في البرامج التلفزيونية اللبنانية والعربيّة، ووقفنا على آراء عدد من المختصّين والعاملين في المجال الفني والإعلامي:
مرشليان: النمطيّة مزعجة والأهمّ منها كيفيّتها
تقول كلوديا مرشليان (ممثلة وكاتبة) في حديثها إلى “أحوال” : “أنا أرى أن بإمكان الأعمال الفنية التي تقدّم شخصاً يُخطئ في حديثه ولغته أن تُساعد على التعلّم، انطلاقاً من الرؤية التي تسلّم بأن الخطأ يدعونا في كثير من الأحيان إلى البحث عن القاعدة الصحيحة، وهو ما يسري على اللغة”.
وتؤيّد مرشليان فكرتها بأمثلة مستقاة من أعمال لبنانية كشخصية “صابر” (غابرييال يمّين) في مسلسل “نيّال البيت” أو “عباس” في “مستر لغات”، وتقول: “ممكن إذا تعلّق الناس بشخصيّة مثل “صابر” أو “مستر لغات” أن يبدأوا بإصلاح أخطائهم وألسنتهم …وهي قضايا تفيد الأولاد تحديداً”.
لكن د. أنطوان الشرتوني المختصّ في علم النّفس يُخالف مرشليان كليّاً، إذ يرى أنّ الأخطاء سريعة المكوث في أذهان الأطفال، ويقول: ” كثيرٌ من الكلمات السيّئة وذات الإيحاءات الجنسية تناقلها الأولاد عبر الشاشات وبرامج الكوميديا تحديداً، وصاروا يستعملونها في أيّ مكان، وفي المدرسة، ومع الأهل، فهذه نوعيّة لا ننكر أنها تُضحك لكنّها ذات تأثير سلبيّ كبير”.
ويُضيف الشرتوني: “إن الولد لديه الاستعداد لتعلّم الأشياء الخطأ أكثر من الأشياء الصحيحة كالكلمات والجُمل، بخلاف الشخص الكبير”.
لكن مرشليان تحذّر من الانجرار إلى الاستهزاء بالإنسان الذي لا يُتقن لغات معيّنة باعتباره أقلّ شأناً من غيره، وتذهب إلى اعتبار أنّ “المشكلة تكمن في طرح الفكرة لا في المضمون”، وتمثّل بقولها: “مَن نتحدّث عنه بسلبيّة، ونتناول صعوباته اللغوية، ومثاله الذي يضرب على رأسه لتخرج الكلمة من فمه… فهو يدخل ضمن باب الاستهزاء والتنمّر وتركيز الضوء والنظر على العيب”.
من جهة أخرى تستشهد مرشليان بعمل “نيال البيت” لتؤكّد احترام عدد من الأعمال الكوميدية “الاختلاف، والآخر”، حيث “رسم الأستاذ كميل سلامة شخصيّة “صابر” (غابرييال يمين) الضعيفة في إجادة الفرنسية بشكل محبوب، وكذلك فعل مع “دارا” الهندي ( جورج الأسمر) الذي لم يكن عرضة للسخرية البتة، على الرّغم من خلل مخارجه الصوتية وتراكيبه اللغوية، في وقت يختلف عرقياً وجنسيةً”.
الشرتوني: بين الكوميديا والتنمر شعرة من الدراما
من جهته، يرى د. أنطوان الشرتوني (اختصاصي في علم النفس) في حديثه لـ“أحوال” أن الأعمال الكوميدية اللبنانية تذهب في بعض الأحيان باتّجاه التنمّر، ويقول: “بالنسبة لي، يؤدّي في بعض الأحيان جعل الشخصيّة ذات خصائص كوميدية، على امتداد العمل، من دون مراعاة التطوّر الدرامي إلى التقليل من فائدة المشاهدين وتحويل العمل إلى نوع من التنمّر”.
ويُضيف: “يمكننا الإشارة هنا إلى ” MR.BEAN ” الذي يتضمّن فوائد كثيرة للمتلقين. لكنّه في البرامج اللبنانية – وهذا أمرٌ يدعو للأسف – نجد الشخصيّات الهزلية تأخذ منحى التنمّر في بعض الأحيان”.
وإذ يرى الشرتوني أن الشاشات تعرض أشياء كثيرة، يتوجّه إلى الأهل والمجتمع لحثّهم على “رفض أعمال يتمّ فيها استغلال الهزل تجاه أشخاص لديهم اضطربات نفسيّة ومشكلات سلوكية، وهو ما لا يمكن معالجته بطريقة الهزل والاستهزاء”.
ويختم الشرتوني بتنبيهٍ إلى “القناة والمخرج والكاتب بوجوب تبيّن مضمون الرسالة التي يريدون إيصالها إلى المتلقّي والجمهور”، وينصحهم باللجوء إلى ” متخصّص في علم النفس ليرى إن كان السناريو مناسباً للبث”.
شعيتو: الكوميديا اللغوية إشكالية واللعبة إعلانيّة
ترى الأستاذة سوزان شعيتو (إعلامية ومتخصّصة في الإرشاد التربويّ) في حديثها لـ“أحوال” أن “وجود شخصيات تُبرز تعثّراً في استخدام اللغة، سواء أكانت اللغة عربية أم أجنبية، أمرٌ يُطرح في أكثر من برنامج هزليّ أو غير هزليّ”.
وتجد شعيتو أن في القضيّة التربويّة اللغويّة بُعداً إعلانيّاً، فتقول: “في اللعبة الإعلامية تشكّل هذه الشخصيات عامل جاذب مؤثر لدى المشاهد، والغرابة تُضحك المشاهد؛ وهذا الضحك هو أداة تعلّقه بهذه الشخصيّة، ثم بالقناة الإعلامية، وصولاً إلى لعبة الإعلان حيث الكسب الجماهيري”.
لكن شعيتو لا تكتفي بالإشارة إلى الإعلان، وتدعو إلى الحذر في التعامل مع الأنموذج التربوي التعليمي الذي تشكّله هذه الشخصيات والأعمال الهزلية، حيث تقول: “هناك وجهتا نظر في هذا الموضوع. فقد تكون نمذجة هذه الشخصيات مفيدة في مكان ما، وقد تكون مضرّة في مكان ما خصوصاً في مرحلة المراهقة. وأؤكّد هنا على عمر الشخص المتلقّي، وتأثير ذلك في نوعيّة التلقي” .
وتوضح شعيتو أن مرحلة المراهقة تستدعي النمذجة حين “يُصبح الأنموذجُ مطلباً نفسياً وتربوياً وموضوع تقليد المراهق، ما يؤدي إلى الخطورة والتأثر…خصوصاً في عصر يتربّى فيه الأطفال أمام الشاشات، وبالتالي يستقبلون كلّ هذه الرسائل المبثوثة، فنرى غلطاً في اللغة أو تلعثماً أو لدغة…. فيأخذ الطفل ما سمع وشاهد، وهذه أشارت إليها الدراسات وإلى خطورتها”.
وفي الجانب الإيجابي، تستذكر شعيتو شخصية “الأستاذ مندور الصارمة لغوياً ونحوياً، و “تتر المسلسل” (أغنية المقدّمة)، حيث يقول: “لا يُقال رأى أبواه بل أبويه، لا يُقال تكلّم عنه بل عليه”. وعندما كان يريد أن يدرّس كان يُعطي نموذج المعلّم الصّعب، لكنّه في المقابل كان يقدّم في كلّ حلقة تصحيحاً للأخطاء اللغوية.
ولذلك تدعو شعيتو إلى “إعطاء مَن يتكلّم بهذه اللغة وزنَه ومكانَته القِيميّة، حتى لا يكون ثمة تعارض بين صورة الأستاذ الفنيّة والأخرى الواقعية”، وتضمّ صوتها إلى صوت د. الشرتوني في خطورة دور الأهل في ضبط رسائل الشاشات، وتقول: “نحن ينقصنا الكثير في برامجنا التربوية المحفّزة التي تُحبّب أولادنا باللغة، وتعلّمهم النطق السليم والعبارات السليمة والاستخدام…لنصل إلى النهوض بتعليم اللغة وواقعها”.
في البرنامج البريطاني Mind your language ثمة بيئة لغويّة محفّزة، تجمع طلّاباً عالميين من دول متنافرة سياسياً وثقافياً في سياق تعليميّ هزليّ هادف، يقف على المتشابهات والعبارات النموذجيّة، ويُصحّحها أو يبيّن الفوارق بينها ليكتسب المشاهد صحيح الكلام.
صحيح اللغة ليس أمراً هيّناً على الناس، ولا لدى أهلها، والسعيُ دائمٌ لاكتسابها، والطرقُ إليها كثيرة، وطرائقُ تعليمِها في تجدّدٍ دائمٍ لا يتوقّف، لأنّها صلةُ وصلٍ بين الناس، ووسيلة تعبير عن الذات، وأهمّ ناقل حضاريّ وُهبناه نحن البشر…
قد نُخطئ في قواعدها، وتعجزُ ألسنتنا عن نطق مقاطعها جيّداً، لكنّ ارتباطنا بها شديدٌ لأنها أهمّ وسيلة تعبير وأوسعها نطاقاً وتأثيراً.
طارق قبلان