مجتمع
أخر الأخبار

زوجة غسان حصروتي أحد ضحايا انفجار المرفأ تروي لـ “أحوال” تفاصيل المأساة: غسان ليس مجرد رقم

الطبيب الشرعي أخبرنا أنّه لم يتعذّب


هم ليسوا مجرّد أرقام، هم أناس من لحم ودم ومشاعر وتاريخ وطموحات تناطح السّحاب، كان لديهم الكثير من الأحلام، وبعضهم كان حلمه أن يعود يوم الثلاثاء 4 آب إلى منزله، يتناول العشاء مع عائلته، ويشاهد التلفزيون ويخلد إلى النّوم بانتظار يوم جديد.

كان يمكن لذلك اليوم أن يمرّ دون أن تذكره عائلات الضحايا، أن يكون يوماً روتينياً من الأيام التي تسقط من رزنامة العمر ولا تحفظها الذّاكرة، لكنّ القدر شاء أن تسقط آخر أوراق الرزنامة، أُحرقت وما تبقّى من آثارها ظلّ مضرّجاً بالدّماء، حافراً في القلب جرحاً لا يندمل.

غسان حصروتي، أحد ضحايا انفجار المرفأ، صاحب الوجه البشوش الذي بقي أسبوعين مجهول المصير قبل أن يُعثر عليه تحت أنقاض مبنى إهراءات القمح، عائلته لم تستسلم يوماً، ظلّت تبحث عنه وظلّت تأمل أن يكون على قيد الحياة، أن يكون قد اختبىء في نفق اعتاد موظّفو الإهراءات على الاختباء فيه أيّام الحرب، لكنّ الانفجار كان سريعاً، لم يتمكّن غسان من الوصول إلى النفق.

بعد العثور على جثّته، كانت العائلة تأمل أنّ يكون غسان قد قضى بأقلّ الآلام، طمأنها الطبيب الشّرعي إلى أنّ الوفاة كانت فورية، لم يتعذّب غسان لكنه ترك خلفه عائلة محطّمة.

ترك غسان أماً فقدت قبله ابناً شاباً خطفه مرض السرطان، وأخوة يتجرّعون الكأس المرّ من جديد، بسبب انفجار كان ممكن ألا يحصل لو كان لدينا مسؤولون على قدر من المسؤولية. ترك زوجة محبّة، كان هو رفيق دربها وحبيبها. فرغ المنزل وبات وقع الهدوء قاتلاً أكثر من ضجيج الانفجار وعصفه وصوت الزّجاج المحطّم وصراخ النّاجين بالصّدفة.

وترك أولاداً لم يفقدوا الأمل طوال أسبوعين من أنّ والدهم قد يكون حياً تحت الأنقاض، فغسان حصروتي لا يموت هكذا، البطل لا يستسلم ولا يغمض عينيه هكذا، أنجبت ابنته حين كان لا يزال تحت الأنقاض ملاكاً صغيراً، بيار الذي انتظره غسان طويلاً، لم يشاهد الحفيد جدّه، لكنّه عندما يكبر، سيستمع الكثير عن الجدّ الذي كان ليكون اليوم بين ذراعيه يغنّي له أغنية ما قبل النوم، لو لم يقوم بتبديل دوامه، ليذهب في رحلة إلى الدير يوم الأربعاء ويصلّي صلاة الامتنان لعائلة جميلة، وحياة يسير فيها كل شيء على ما يرام، صلاة للأيام الجميلة التي لم تأتي بعد، ولن تأتي.

 

-ابتسام حصروتي… تفاصيل اليوم الأخير

قبل انفجار المرفأ، كان البلد قد دخل في عطلة قسريّة بسبب تفشّي فيروس “كورونا”، عطلة يُستأنف فيها العمل يومي الثلاثاء والأربعاء، ليعاود الإقفال بعدها خمسة أيام.

تذكر ابتسام زوجة غسان تفاصيل اليوم الأخير، كانت العائلة في الجبل، وعادت مساء الاثنين، كانت السّهرة الأخيرة لتكون سهرة عادية لا تذكرها ابتسام، لكنّها اليوم تستعيد تفاصيل تلك اللحظات، لأنّها كل ما تبقّى من زوجها.

تفتح ابتسام قلبها لنا، فغسان ليس مجرد رقم، وتفاصيله تستحق أن تُروى.

تخبرنا عن الفراغ الذي تركه الزّوج والأب المحبّ في منزله، تقول “غسان ترك فراغاً أكبر من أن أصفه. كان دينامو المنزل، كثير الحركة، يدخل إلى البيت يخرج منه، يملأه طاقة. ترك فراغاً قاتلاً برحيله”.

تحدّثنا ابتسام عن قصّة الحب التي تكلّلت بالزّواج “تزوّجنا في ظروف صعبة، كانت أيام حرب، كنا نهرب من مكان إلى آخر، لكنّنا بنينا عائلة جميلة، وظلّ الحب يجمعنا طوال السنوات، من اليوم الأول حافظنا على الاحترام والمحبّة والمودّة. كان غسان مصدر الفرح والأمان للعائلة كلها، كان مفعماً بالطاقات، كان صاحب المشاريع التي لا تنتهي، دائماً ثمّة مشاريع علينا إنجازها. اليوم ترك غسان فراغاً كبيراً لا شيء يملأه”.

تستعيد ابتسام ذكريات يومي الاثنين والثلاثاء، آخر ذكرياتها مع غسان، تقول “يوم الجمعة صعدنا إلى الجبل، وكان من المقرّر أن يلتقي غسان بأصدقائه يوم الاثنين، كانت ابنتنا وأولادها معنا في الجبل، فاقترحت على والدها أنّ نأخذ الأولاد إلى النهر. ذهب غسان معهم وسبحوا، وهناك كان يعلّم الشبان الصغار كيف يسبحون وكيف يتجنّبون التيّارات في النهر، كان يستعيد ذكرياته في تلك المنطقة التي سبح فيه وهو لا يزال طفلاً”.

كان يمكن لغسان أن يكون حياً اليوم، يبكي رفاق دربه الذين قضوا في مبنى الأهراءات، لو لم يطالب بتبديل دوامه، ويحصل ما حصل.

تتابع ابتسام “مضى يوم الاثنين ولم يتمكّن من لقاء أصدقائه، وعدنا مساءً إلى بيروت، سهرنا أمام شاشة التلفزيون وتحدّثنا، وأخبرني أنّه سيذهب يوم غدٍ إلى عمله، وسيطلب إجازة يوم الأربعاء لنذهب إلى الدير لنقدّس، وعندما ذهب الثلاثاء، أخبروه أنّ يوم الأربعاء لديه دوام 24 ساعة، كان من المقرّر أن ينام في المرفأ كما كان يحصل عادةً، إلا أنّه اتفق مع زميل له أن يتبادلا الدوام، ينام غسان الثلاثاء في المرفأ، وينام زميله بدلاً عنه يوم الأربعاء، ذهب زميله، وبقي هو هناك”.

تستعيد ابتسام اليوم الأخير وتخنقها العبرات وهي تتذكّر تفاصيل كان لها أن تمرّ دون أن تذكرها، كانت العائلة مجتمعة، ابنتها الحامل، وابنتها الثانية مع أولادها الثلاث كانتا في زيارتها، كان ابنها في عمله، وكانت منهمكة بإعداد طعام الغداء لأنّ ابنها يحضر باكراً من عمله، اتّصل غسان ردّت ابنته رنا، أخبرته أنّ والدتها في المطبخ تحضّر الطعام.

ثم عاد بعدها واتصل، ردّت ابنته رامونا وقالت له “ماما عم تشتغل”.

ثم اتّصل عند الساعة الخامسة والنصف، تقول ابتسام وهي تخفي دمعة وغصّة كبيرة “اتصل للمرّة الثالثة وأجبته، قال لي شو ما بدك تحكي معي اليوم؟”.

كان الاتصال الأخير، استمرّ ربع ساعة، سألته إذا كان سيعود إلى المنزل لتحضّر له الغداء، أخبرها أنّه سينام اليوم في المرفأ، لأنّه طلب إجازة يوم الأربعاء ليذهبا معاً إلى دير المخلص، ودّعها الوداع الأخير وبعدها بدقائق وقع الانفجار.

اهتزّ منزل العائلة في سنّ الفيل، كانت الأخبار الأولى تشير إلى أنّ الانفجار وقع في بيت الوسط، تقول ابتسام “سارعنا إلى الاتصال بغسان كان خطّه مقفلاً، اعتقدنا أنّ الاتصالات قُطعت بسبب قوّة الانفجار، لكنّ هاتف غسان بقي مقفلاً ولم يعاود فتحه من جديد”.

تتذكّر ابتسام تفاصيل تلك الأيام السّوداء، كانت العائلة تأمل أن يختبىء مع زملائه في النفق تحت مبنى الأهراءات تقول “اعتقدنا في البداية أنّه وأصدقاءه اختبأوا ونجوا من الانفجار، لكن الأمور حصلت بسرعة، ولم يتمكّنوا من النجاة”.

كانت العائلة على مدى أيام تتوقّع أن يكون غسان حياً، وعندما عثرت فرق الإنقاذ على جثته، كانت تأمل ألا يكون قد تعذّب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، تقول ابتسام وكأن الأمر يعزّيها “الحمد لله لم نتسلم أشلاءً بل تسلمنا غسان، حتى أنّ آثار ملابسه كانت لا تزال على جسده”.

طمأنها الطبيب الشرعي “لم يتعذّب غسان”، تقول “الحمد لله، هذا الأمر شكّل مصدر عزاء كبير لنا”.

طوال أسبوعين، كان أولاده يتابعون عملية الإنقاذ، تقول ابتسام “لم يسمحوا لنا بالدخول إلى المرفأ، لكنّنا تواصلنا مع كولونيل فرنسي، ووعدنا أنّه لن يغادر قبل العثور على غسان”.

هل تعرف العائلة زملاء غسان الذين قضوا معه؟ تقول ابتسام “أعرفهم بالأسماء، كانت أسماؤهم متداولة في منزلنا، لكنّي لم ألتقِ بأي منهم شخصياً”.

لمن تحمّل العائلة المسؤولية؟ تختار ابتسام كلماتها بعناية، فالوقت وقت حزنٍ وكل الوطن في حالة حداد، والجرح لا يزال ينزف، تقول “أحمّل المسؤوليّة لكل الدولة، للطبقة السياسيّة الحاكمة، بسبب إهمالهم حصل الانفجار، الكل كان يعمل بوجود نيترات الأمونيوم في المرفأ إلا الموظفين”.

تؤكّد ابتسام أنّ غسان لم يكن يعرف بوجود مواد متفجّرة، تقول “لا أعرف ربّما أخبرني أن ثمّة سفينة غرقت في المرفأ، لا أتذكّر”.

عندما تشاهد ابتسام عائلات الضحايا، تشعر أنّ العزاء مشتركاً، كلنا مصابون وكلنا مفجوعون، وكلّنا نعاني، لكنّ أحداً لا يملىء فراغاً تركه غسان.

تخبرنا عن الملاك الذي رأى النور عندما كان جدّه لا يزال تحت الأنقاض، حفيدها الذي ولد في أيّام عصيبة، تقول “كنا ننتظره بشغف، أعددنا المؤنة هذا الصيف باكراً، لأنّنا في شهر آب كنا نحضّر نفسنا للانشغال بالمولود الجديد. هذا الملاك أدخل البهجة إلى قلوبنا في أيامٍ صعبة. الله هو من يُلهمنا الصبر وهو من أرسل إلينا الملاك الصغير ليعزّينا ويقول لنا إنّ الأمل لا يزال موجوداً”.

تتابع “لولا إيماننا بالله لمتنا من الحزن والوجع”.

ماذا عن والدة غسان؟ تقول ابتسام “الله يعينها، ماذا أقول عن والدته، هي حملته تسعة أشهر في أحشائها قرب قلبها، كيف أصف حالها؟ أي كلمات تصف ألم أمٍ فقدت ابنها بهذه الطريقة؟”.

لن تسامح العائلة كل من تسبّب بهذا الانفجار، ولن تسامح كل من كان بإمكانه منع ما حصل، فتقاعس وأهمل وحصل ما حصل، الحياة لن تعود كما كانت.

ترفض العائلة إطلاق اسم “شهيد” على غسان هو لم يكن في ساحة معركة ذهب إليها طوعاً، بل كان في عمله في يومٍ عادي، كان من المقرّر أن يعود إلى المنزل، وأن يذهب مع عائلته إلى الدّير في اليوم التالي، لكنّه لم يعد، ولم يتبقّ منه سوى ذكريات موجعة، تخبر العائلة أنّ غسان رحل وترك خلفه فراغاً كبيراً وجرحاً لا يندمل.

إيمان إبراهيم

 

إيمان إبراهيم

صحافية لبنانية، خريجة كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. كتبت في شؤون السياسة والمجتمع والفن والثقافة. شاركت في إعداد برامج اجتماعية وفنية في اكثر من محطة تلفزيونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى