منوعات

“انتفاضة 17 تشرين” تستعيد الزخم: جَبهات لمقارعة السلطة انتخابيًا

لعلها مرحلة مفصلية اليوم تلك التي تخوضها انتفاضة 17 تشرين وهي تحاول لمّ الشمل وإعادة إطلاق الزخم على أسس جديدة مختلفة عن البدايات، لكن متشابهة إلى حد كبير في الأهداف.

في ربيعها الأول، عاشت الانتفاضة ومعها شرائح لبنانية واسعة حلم التغيير واستعجلته في الساحات حيث ثارت الجموع في وجه منظومة حكم حمّلتها مسؤولية ما آل إليه البلد من انهيار.

سريعًا، عزّز سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري بعد ايام على 17 تشرين، من ذلك الحلم المُتوهَم في التغيير السريع الحارق للمراحل. لكن بعدها بأشهر كان من سوء حظ “الثورة” أنها واجهت ظروفا موضوعية بالغة القسوة. إصطدمت “الثورة” السلمية مع سلطة حاكمة جابهتها بقساوة غير مسبوقة وباعتقالات لشبابها وبتغلغل داخلها لإضفاء العنف والطائفية على مطالبها، ولم يكن ينقص الانتفاضة سوى هبوب وباء كورونا ليصُد جموح “الثوار” غير المعفيين بدورهم من مسؤولية التعثر بانقاساماتهم وقلة خبرتهم في السياسة.

اليوم، وسط أزمة اقتصادية واجتماعية هي الأكبر في البلاد وبعد نحو عام على مأساة الرابع من آب في المرفأ التي دلّت من جديد على إنهيار الدولة في لبنان، باتت “الثورة” أمام تحدّي تقديم مقاربة جديدة تعي المجموعاتُ الكبرى مسؤوليتَها في صياغتها للمستقبل.

بالنسبة إلى منتفضي الساحات، فالثورة بعد أكثر من عام ونصف مستمرّة بأشكال مختلفة لكن “الانتفاضة باتت مخطوفة” على حدّ تعبير القيادي النقابي الشيوعي كاسترو عبد الله. ويعيد رئيس “الاتّحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان” إرهاصات التحركات إلى ما قبل 17 تشرين بكثير وهو التاريخ الذي جاء نتيجة تراكمات على مدار سنوات سابقة بدأت منذ العام 2010 ، عبر محاولات حراكية عدّة في الجامعات ومن قبل المجتمع المدني والنقابات، وشهدت السنوات حتى ذلك التاريخ تراكمات مطلبية كما في قضية النفايات والأجور، ودعوات إلى إسقاط النظام وصولًا إلى 17 تشرين الذي اتى تتويجًا لهذه التراكمات.

وهو ما يوافقه عليه المحامي علي عباس من “المرصد الشعبي لمحاربة الفساد” الذي يشير إلى تلك التراكمات مع الإصرار على تسمية 17 تشرين بـ”الثورة” كونها تقارب ما هو جوهري في البلد، وبذلك فهي ليست انتفاضة مرحلية، فقد جاءت في وجه المنظومة الفاسدة التي استأثرت على مدى 30 عامًا بكلّ شيء في البلد عبر زبائنية وطائفية ما أدّى إلى الانهيار الحالي.

وبالنسبة إلى القيادي في “ثوار بيروت” مروان الأيوبي، فمن غير المهم التوقف عند التسمية والأساس هنا هو الفعل الذي تتركه، “ويمكننا تسميتها بالحركة الجماهيرية المتمرّدة ضد فساد السلطة والدولة التي وصلت إلى حالة الانهيار”.

وبغض النظر عن التسمية، فإنّ الحراك الجماهيري قد تعثر بعد زخمه الكبير في تلك البدايات العذبة. ويعترف عبد الله بأنّ “ذكاء هذه السلطة والطغمة الحاكمة مكّنها من الالتفاف علينا بعد استقالة الحكومة، فاستعادوا أنفاسهم بدعم خارجي، وجيّشوا فقراء في وجه فقراء وعبر دفرسوار الشعارات التي خرجت من قلب الانتفاضة وحرفت بوصلتها المطلبية المحقة حيال قضايا اقتصادية واجتماعية وفي سبيل لقمة العيش”.

لعلّها وجهة نظر صائبة، ذلك أنّ قوى السلطة من 8 و14 آذار قد اجتمعت وتبادلت الخدمات لمحاربة “الثورة”، وكان من تلك الأدوات، حسب عبد الله، سلاح الإعلام مع تظهير شخصيات عبر برامج الـ “Talk Show” وتنصيبها والتركيز على حراكات معينة دون أخرى.

ويؤكد عباس ان القضية مستمرة وهي واجهت أصعب المراحل في ظل وضع كورونا وتفجير المرفأ والوضع الاقتصادي العالمي الصعب ومفاعيل الحرب السورية، “فبتنا لا نواجه فقط منظومة الفساد في وضع طبيعي بل معها أيضًا تلك الصعوبات”.

ويلفت النظر إلى أنّ المنظومة استفادت من الوباء لإزالة خيم الثورة وإقفال البلد حتى في أيام لم تكن فيها أعداد الإصابات كبيرة، ولجأت بعد أيام قليلة على انفجار المرفأ في 4 أب، إلى أعمال القمع واستهداف المتظاهرين بالرصاص والتوقيفات كما حصل في 8 منه، ما أثار ذعر الناس السلميين، وبذلك تمّت إثارة بعض الملفات القضائية والمعيشية لإلهاء الناس.

وللأيوبي رؤيته للانكفاء الحاصل ولذلك أسبابه العديدة وأهمها العجز، “وفي علم الاجتماع هذا يولّد هويات ملتبسة دون وطنية، مذهبية وطائفية ومناطقية أحيانًا في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية، ما دفع الانتماء الفردي والعائلي إلى الأمام لمعالجة الأحوال المعيشية والشخصية بعد 100 يوم في الشارع، إضافة إلى مفاعيل وباء كورونا. وقد أدّى عدم الوعي والنضج الكافي إلى ذلك فباتت الناس مشغولة بهمّها الذاتي ربطًا بالعجز عن إسقاط المنظومة”.

 

إعادة التقييم

اليوم، تبدو مجموعات الانتفاضة وشخصياتها أمام تحدي تقييم التجربة. ويبدو أنّها تفكر في خوض استحقاق الانتخابات النيابية بعد عام ايمانًا منها بأنّها لن تستطيع التغيير سوى من داخل العملية السياسية. وبذلك تتجلى واقعية تحلّى بها “الثوار” بعد مرحلة أولى حالمة بإسقاط هيكل السلطة على المنظومة.

وتمّ الإعلان عن جبهات وإئتلافات لن تكون سوى البداية في محاولة تنظيم الصفوف. ففي مقرّ “الكتلة الوطنية” تجمّعت مجموعات تنشط يوميًا، خاصة في العاصمة بيروت، لتشكيل نواة جبهة تضم شخصيات سبق أن خاضت الانتخابات مثل بولا يعقوبيان وواصف الحركة. ويقول عباس إنّ الجبهات ليست فقط للانتخابات لكن من أهداف الثورة طبعًا أن تصل إلى السلطة من داخل البرلمان لكن على أساس خريطة طريق لحكومة انتقالية تُشرّع قانون انتخابي عادل. على أنّ هذه الجبهات لا تزال في بداياتها وقد تؤدي إلى تلاقي إذا حصل الانسجام من دون نفي وجود خلافات يمكن تهميشها مع التركيز على المبادىء الأساسية.

والواقع أنّ المجموعات تفكر في استنباط أدوات للمواجهة لكن اذا كانت الجبهات ستشكل فقط على قاعدة الانتخابات فإنّها بذلك تكون وقعت في مقتل لها، والكلام هنا للأيوبي. ففي لحظة الانكفاء، بدأت المجموعات في البحث في أدوات التغيير وكيفية تظهير جبهة معارضة سياسية على أساس مواجهة السلطة، وإحدى أدوات التغيير هي الانتخابات “على البارد”، وحتى هذا التغيير له شروطه عبر أدوات ومقاربة مختلفة لطبيعة تظهير حالة بديلة بمشروع وطني واضح بعيدًا عن المحاصصات الطائفية أو الفئوية في سبيل تقديم بديل وبرامج عمل إلى الناس لتستعيد ثقتها بالبلد ككيان مع تجويف مؤسسات الدولة. إضافة إلى تحديد أدوات النضال في سبيل استرداد الناس لثورتها وقدرتها على التغيير وسط احساس بالعجز.

ولعلّ المجموعات بغالبيتها تعلم تمامًا ضرورة التنظيم. فالثورات وإن أنتجت ما هو حق، إلّا أنّ الأكثر تنظيمًا هو من يسود، وبذلك تملك السلطة أفضلية على “الثوار” الذين يعيبهم عدم الانضمام إلى بوتقة جبهوية واحدة. ولعلّ السؤال يجب أن يوجه إلى اليسار على الأخص، ويؤكد القيادي الشيوعي عبد الله “أنّنا منذ فترة نبحث إعادة دراسة الواقع ونعمل على استنهاض القوى الجماهيرية التي تشبه بعضها البعض لاستقطاب الجماهير حتى تلك التي في الأحزاب، ورفع قضايا مثل احتجاز أموال اللّبنانيين في المصارف والأزمة المعيشية”.

ويضيف: 17 تشرين محطّة لا يزال شعاعها قائمًا لكنّها في حاجة إلى تأطير وإعادة درس ووضع خطط وآليات للاستفادة من الأخطاء، ونريد خلق حركة نقابية ديموقراطية مستقلة وتحالف مع الحراك الشعبي في موازاة تحالف اجتماعي عريض للفئات المتضرّرة، وأن نتفق على أولويات أساسية وبسيطة في آن ولا نذوب في برامج طويلة بل مرحلية وشعارات آنية لإعادة تشكيل السلطة وإجراء انتخابات نيابية عبر قانون عصري نسبي موحد.

 

تحرّكات بعد رمضان

لعلّ الحراكيين الذين لم يتركوا الشارع هم الجزء الحيّ من الثورة، وهم الذين يحافظون على هدف الحراك المعيشي الذي يقضّ مضاجع اللّبنانيين، ويرفضون الانجرار نحو أهداف دخيلة عليه مثل نزع سلاح “حزب الله” الذي يحتل أولوية عند يمين “الثورة” المعزّز خاصة بحزبيّ “القوّات اللبنانية” و”الكتائب”.

وعلى هذا الصعيد يشدّد عبد الله على مسلمة التحرّر من التدخلات الأجنبية “التي دفعنا ثمنها كحركة نقابية ونحن قدّمنا الشهداء من العمال في وجه العدو الإسرائيلي الذي نعتبره خطًا أحمر. وصوتنا لا يزال مدوّيًا في الموضوع الاقتصادي والاجتماعي حتى في وجه حماية الفساد تحت حجج حفظ المقاومة”.

وهو بذلك يُعبّر عن جوّ عام في الانتفاضة يشكل اليسار جزءًا لا يتجزأ منه، والأهداف اليوم كثيرة “فمن واجبنا الدفاع عن لقمة العيش ورفع قضية الصرف التعسفي نتيجة الجائحة ومواجهة كارتيل الأفران والمطاحن المحميين وكارتيل المواد الغذائية ومستورديها الذين يستفيدون من عملية الدعم من أموال الفقراء ويدفّعوننا إيّاها مرّة ثانية ويهربونها”.

والحال أنّ غالبية المجموعات تجتمع على الأهداف المطلبية المعيشية وتصرّ على أنّ الثورة حقّقت الكثير. وبالنسبة إلى عباس فإنّ من في الحكم بات يتبنى الثورة مع علمه أنّ قاعدته الشعبية ستلفظه يومًا ما، وهذا إنجاز كبير بعد أن فتح السياسيون ملفات الفساد في حق بعضهم البعض. إنّ الثورة باختصار تعتبر الحركة التصحيحية الوحيدة والنطفة التي يؤسس عليها للمستقبل.

ويسترسل الأيوبي في تعداد الإنجازات: انطلاقًا من علم الاجتماع فإنّ الثورة قامت بكسر هيبة من في الحكم، وتمّ إسقاط حكومة بقوّة الشارع، وتسليط الضوء على الكثير من أماكن الفساد المتعشش داخل الدولة وبالتالي الثورة فضحت المنظومة لأنّ أوّل قاعدة من قواعد الوعي هي كشف عورات السلطة، كما شكّلت حالة غضب لا زالت كامنة قد لا يكون التعبير عنها في الشارع بل في الانتخابات مثلاً، كما أثبتت السلطة مأزوميتها عبر تصريحات مسؤوليها تجاه الثوّار وإقفال الطرقات مثلًا، وهو ما يشير إلى خشيتها من التحركات.

على أنّه في انتظار الانتخابات، ثمّة محطات تؤشر إلى تأثير قيم الثورة في الوجدان مثل معارك الانتخابات الجامعية وفي النقابات حيث مدّدت السلطة المهل لعدم إجراء الانتخابات كما عند الأطباء والمهندسين..

لكنّ الأمر بالطبع يحتاج إلى توحيد للجهود قبل الانتخابات النيابية التي تثير تساؤلات حول إقامتها في موعدها. وفي كلّ الأحوال تشرع “قوى التغيير” في إقامة الجبهات، ومن بينها التي أقامها حزب “الكتائب” الذي يحاول استثمار الغضب الشعبي بينما شكّل حتى فترة قريبة ركنًا أساسيًا بين قوى الحكم. كما أعلن “الائتلاف المدني اللّبناني” وثيقته السياسية وهو عبارة عن مجموعة نخبوية على يمين الحراك. لكن لا تنسيق حاليًا بين تلك الجبهات، ويشير الأيوبي، وقد كان “ثوار بيروت” في المبادرة التي أعلن عنها في “الكتلة الوطنية”، إلى “أنّنا جبهة وطنية تجمع الشريحة الأوسع من الناس التي تقدّم مشروها، وإذا قرّرنا الذهاب إلى الانتخابات عندها قد تتطلّب ظروف المعركة التنسيق مع الجبهات الأخرى عبر معركة واحدة للتغيير بدءًا من المجلس النيابي”.

ويرى عباس أنّ من الأهمية بمكان التنظيم على جبهات عدّة حالما تحين الفرصة “ومثلًا للخروج بقضيتنا أمام مؤتمر دولي ما، لكن طبعًا ضمن إطار الأسس والمبادىء اللّبنانية الرافضة للتدخلات لكن غير الرافضة للوساطة”.

في انتظار الصياغة النهائية لتلك الجبهات، ستستمر المجموعات في تحركاتها، وثمّة الكثير من القضايا على جدول الأعمال بعد شهر رمضان. ويقدّم عباس أمثلة عبر “ملفات فساد هائلة في بلدية بيروت والجمارك وفي الإدارة كلّها على صعيد المناقصات والأشغال العامة، وبمجرد وضعنا هذه الملفات أمام القضاء فإنّ ذلك سيشكّل في حدّ ذاته تطورًا هامًا ولعلّ القرار الأخير للقاضية أماني سلامة بدعوى من مجموعة “الشعب يريد إصلاح النظام”، الذي قضى بالحجز على أملاك وعقارات عدد كبير من المصارف ورؤساء مجالس إدارتها، جاء من مناخ ثورة 17 تشرين، في معركة استقلالية القضاء.

وبالمثل يؤكد عبد الله على متابعة النضال في المعارك القائمة أصلًا ومنها محاربة جشع الأسعار وموضوع الإيجارات الجديدة خاصة انعكاس مسألة الدولار على قضية التفكك الأسري، وقضية موظفي “ليبان بوست” وتحويلات أهالي الطلاب في الخارج ومواجهة كارتيل المستشفيات والسرقة الموصوفة التي ستُفلس الضمان وتعاونية موظفي الدولة، ومسألة التقديمات الاجتماعية وكلّ ما يفعّل القطاع العام.

لكنّ التحدي سيكون كبيرًا، فأحزاب الحكم تمكنت من استرجاع بعض شعبيتها عن طريق خدماتها ومزايداتها في مواجهاتها الطائفية مع بعضها البعض في الكباش الحكومي، إلّا أنّ الواقع يفيد بأنّ المنظومة استعادت بعض ما خسرته ولم تستقطب شرائح جديدة، كما أنّها عجزت عن تحقيق خرق ملحوظ لدى شرائح الطبقة الوسطى، وسط حقيقة مفادها أنّ من خرج من تلك الأحزاب لا ينضوي عند غيرها بالضرورة، هنا بالذات تقوم فرصة الثورة لاستعادة الزخم.. والدور.

 

عمار نعمة

عمار نعمة

كاتب سياسي لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى