ماري خوري إحدى ضحايا الحرب تروي لـ”أحوال” تفاصيل مأساة “تنذكر وما تنعاد”
رصاصة اخترقت جسدها فأزهرت ريشة وألواناً
أعظم نصر في أي حرب في سبيل أشرف قضية يحمل في طياته هزيمة، والفرح بهذا النصر لا بّد أن يكون ملطخاً بحزن على من فقدوا ذاتهم أو بضعاً من ذاتهم لتحقيقه، فإنتهى مشوارهم في هذه الحياة أو تحوّلت حياتهم الى مشوار برفقة الألم والإعاقة والمعاناة. فالحروب مآسٍ وأوجاع لا تنتهي مع آخر رصاصة. الحروب لا تخلو من العبثية مهما كنت مقدسة. الحروب بشاعة رغم كل الشجاعة وحرب 13 نيسان 1975 لا تشذّ عن هذه القاعدة. ماري خوري بشللها الرباعي وجسدها “المدولب” منذ 38 عاماً شاهدة على ذلك وتروي عبر “أحوال” تجربتها.
الاربعاء 7 ايلول 1983 محفور برصاصة مباشرة أطلقت من على بعد نصف متر في جسد إبنة الـ18 ربيعاً يومها، حيث إخترقت عمودها الفقري وسمّرتها بشلل رباعي أبدي. ماري ككثير من أبناء جيلها لم تخطّط في الأساس لحمل السلاح بل وجدت نفسها بين يديه دفاعاً عن وجودها وربما خوفاً من الآخر المختلف لذا إنتسبت إلى سلاح الإشارة في “القوات اللبنانية”. أنهت دراستها الثانوية وكانت تتحضر لدخول كلية الهندسة، لكن حرب الجبل المشؤومة حالت دون إنتقالها من بلدتها البيرة الشوفية الى بيروت.
في ذاك اليوم، رفضت ماري إعطاء أسماء رفاقها في الثكنة وكان الثمن رصاصة أسقطتها أرضاً. في اليوم التالي، وخلال تجميع الدفاع المدني الجثث تبينَ أنها ما زالت تنبض بالحياة رغم جسدها المرمي والمثقل بالتعذيب. وفي وقت أدرج إسمها بين القتلى عبر وسائل الاعلام، لم يعلم أهلها بنجاتها إلا بعد مرور أسبوع تنقلت فيه من مستشفى بعقلين إلى مستشفى حمود في صيدا وصولاً الى مستشفى أوتيل ديو حيث بقيت 3 اشهر. ثم إنتقلت الى معهد بيت شباب – المعهد اللبناني للمعوقين.
كانت صدمة العمر حين إكتشفت أن العلاج الفيزيائي المكثف لن يعيد اليها الحركة وأن جسدها أستسلم للأبد أمام الشلل الرباعي. فتملّكها اليأس ستة اشهر قبل أن يحوّل تأملها بيسوع المصلوب على حائط غرفتها يأسها الى رجاء، حزنها الى فرح، غضبها الى سلام وحقدها الى مسامحة. تصالحت مع ذاتها وجسدها وإعاقتها والأهم تصالحت مع مطلق النار عليها من دون أن تعرفه حين قررّت أن تسامحه بعدما هزّتها الآية القائلة “أحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ”.
“من أطلق النار علي ربما كان وفق وجهة نظره يدافع عن وجوده على طريقته”، تقول ماري وتضيف: “لا أحد يتمنى الحرب لأنها لا تزرع سوى الموت والحزن والحقد. نتيجة الحرب معروفة وهي الجلوس معاً في نهاية المطاف. المنظّرون عن الحرب اليوم كثر ولكن لا يعرف حقيقتها سوى من عاشها. يستفزني من يتباهى أن يديه لم تتلطخ بالدم. جبان هذا الذي لم يتجرأ عن الدفاع عن بلده. بالطبع يجب تدارك وقوع حرب وسقوط ضحايا بأي ثمن. لكن بصراحة، إن وضعت في نفس الظرف، سأكرر نفس الموقف وأحمل السلاح دفاعاً عن اهلي وبلدتي. لذا يجب قيام دولة عادلة حامية لأبنائها وجيش يضمن أمنهم كي تبعد عنا كأس الحرب ونعيش بسلام ومساوة وحرية وكرامة”.
منذ طفولتها، كانت ماري تهوى الرسم وهي التي تعيش في لوحة طبيعية قريتها البيرة، إلا أنها قرّرت أن تتحدى إصابتها وتحوّل الهواية الى إحتراف رغم شللها الرباعي. هي تؤكّد أن ذلك ليس بهدف تعبئة الوقت بل للشهادة أن “الله حاضر رغم شرور البشر وأن سلاح الإرادة أمضى سلاح”.
إعتمدت ماري تقنيات الرسم على المسند الذراعي (Atel) وهي تحتضن ريشتها بين يدها ووجهها. عام ١٩٨٥ تلقت علومها الأولى في مجال الرسم بطريقة التنقيط بالحبر الصيني لمدة سنة ونصف السنة. ثم إنتسبت إلى أكاديمية مايكل انجلو للفنون الجميلة عام ١٩٨٩ لصاحبها الفنان اسعد رنو وتخرجت منها عام ١٩٩٢. شاركت في معارض على مساحة الوطن وحققت حلمها بإقامة أول معرض فردي خاص بها في فندق “متروبوليتان بالاس” عام ٢٠٠٦. كذلك شاركت في معارض عالمية في الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وكولومبيا وفرنسا. اليوم، بلوحاتها المائية والزيتية ونبض الالوان تجسّد ماري حبها للحياة وتتحدى لوحة الحرب السوداء المرسومة بالموت والدمع والدم وتنشد الفرح والسلام.
“النصر الأعظم هو ذلك الذي لا يتطلب قتالاً” و”الانتصار الحقيقي هو ألا يتم السماح أصلاً للقتال أن يقع” و”المقاتل الحكيم هو من يتجنب المعركة”، حِكَمٌ يتضمنها كتاب “فن الحرب” الصيني القديم لمؤلفه صن تزوSun Tzu الذي صدر خلال القرن السادس قبل الميلاد وتمت ترجمته إلى 29 لغة. هل نتعظ من دروس التاريخ في لبنان فنتقبل الآخر المختلف ونحترم خصوصيته ولا نكرر 13 نيسان كل 20 أو 30 عاماً؟ هل نكون حكماء وننتصر حقاً؟