منوعات
أخر الأخبار

هكذا يشحذون بعض غاز.. بشرف

لن نعود إلى ما قبل 1840.  منذ ذلك التاريخ، واللبنانيون في صراعاتهم الداخلية يظنون أنّ الطرف الآخر في بلدهم هو العدو، فيلجأون إلى الخارج للاستعانة بقوة تحميه، وغالباً ما كان كل طرف يلجأ إلى دولة، أو قوة دولية، ظناً منهم أنّها “مغرمة” به، وأنّها ستحرق الأخضر واليابس كرمى لسواد عينيه.

“النرجسية” اللبنانية أوهمت اللبناني أنّه مميز عند وليّه، أو وكيله الدولي. حتى اليوم لم يعِ اللبناني أنّه كان ريشة في مهب رياح الصراعات الاقليمية والدولية، وقشة في عواصف الصدام من أجل مصالحها. ما انفك غالبية من اللبنانيين يعتقدون أنّ فرنسا أم حنون، والاستعمار يوم وفد لتقسيم المنطقة، خصهم بحالة احتضان دافيء كرمى لراحتهم، ولسواد عيونهم، وليس من أجل مصالحه.

بعد صراعات مريرة مستمرة لا متهاودة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، ودخول العالم آحادية القطب، والحرب في شرقنا لم تتوقف. من حرب العراق الأولى، والصدامات الصهيونية مع المقاومة، واغتيال الرئيس الحريري 2005، بلوغاً لما عُرف بـ “الربيع العربي”، وأكثر ميادينه حماوة وقسوة الساحة السورية، ونحن مستمرون في الصراعات الاقليمية والدولية، والساحة اللبنانية جزء منها.

سبق لهذه الساحة أن لعبت دور الخدمة للغرب وأولى مظاهرها عقب إعلان نشوء الكيان اللبناني 1943، فكان انخراط السلطات الرسمية اللبنانية بحلف بغداد على يد رئيس جمهوريته كميل شمعون، والانخراط بمواجهة الناصرية، فوقعت أحداث 1958.

وعندما طرد الصهاينة الفلسطينيين 1967، ووفدوا إلى لبنان، لعبت فئة من اللبنانيين دور الفتى المدلّل للغرب، فعملت على تنفيذ مخططاته، ومجابهة الحركة الفلسطينية.

في ثقافة هذه الفئة، وتربيتها في معاهد الإرساليات الأجنبية، باتت فكرة تمايزها جزءاً لا يتجزأ من شخصيتها وقناعاتها، كما أنّ الغرب متبنٍ لها، لصالحها، وليس لمصلحته، فلعبت هذه الفئة دور الصراع مع الآخر، اللبناني والعربي توهما في ذلك دفاعاً عن الذات، والتهديد بالخطر من الآخر المختلف، متيقنة أنّ لا هم عند راعيها إلا دلالها، وكل ما تريد.

لعبت هذه الفئة اللعبة الغربية على عماها لاعتقادها بحب الغرب لها فوق كل مصلحة واعتبار، حتى إذا حلّت سنة 1976، جاء الغرب الاستعماري-الامبريالي يقول لها: “تفضلي معنا، جئنا بأساطيلنا لننقلك إلى بلادنا”، بحسب ما قاله وزير الخارجية الأميركي دين براون لرئيس جمهورية لبنان آنذاك سليمان فرنجية.

بغضّ النظر عما تلا ذلك من تطورات، كانت اللعبة الغربية بحق هذه الفئة مكشوفة، ورغم جلائها الفج لم تعِ هذه الفئة أنّ الغرب لا يحبها عشقا كعشق قيس لليلى، بل من أجل مصالحه، وعندما بلغت الأمور مرحلة حساسة، وجد الغرب فيها مصلحته مع قوى أخرى أكثر فعالية وتأثيراً، تخلى عنها، وطلب منها إخلاء بلادها لما وجد فيه من مصلحته.

كان الدرس قاسياً جداً لهذه الفئة، بما يكفي ليتعلم منه أنّ السياسة، والصراعات مصالح، وليسا غراميات. الطامة الكبيرة أنّ هذه الفئة عاودت لعبتها لصالح الغرب مع السوري في لبنان. دخلت متاهة الصراع مع السوريين حتى الإستنزاف. لا تستطيع هذه الفئة فصل الواقع وتطوراته عن ثقافتها ووعيها الغربي المكتسب بنشوء الكيان لصالحها. انخرطت ضد السوري، يستخدمها الغرب بكل قوته، ويستخدم حنكته الإعلامية والترويجية، بتعبئته لها، فتتورط لاهثة وراء صيد وهمي.

استمرت هذه الفئة بلعب دورها عينه في مراحل الصراع المختلفة، مروراً باجتياح 1982، فحربي الإلغاء والتحرير، بلوغاً اتفاق الطائف، دون أن تتعظ هذه الفئة من رهاناتها، رغم خسائرها الوجودية.

النزعة عينها أصابت فئات أخرى عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري 2005. لم تعد فئة المارونية السياسية، ذات النزعة الأقلوية، وحيدة في شعورها، أنّها فتى الغرب المدلل، وأنّ الغرب لا هم له سواها، فانضم إلى المسار عينه، وبآليات إعلامية وتعبئة سياسية، فئات أخرى في البيئتين السنية والدرزية.

انخرط تحالف ما بعد 2005 فيما عرف بقوى 14 آذار، في لعبة الغرب، وصراعاته ضد المشرق. راهنت هذه القوى أنّ الغرب هو الأقوى، إذاً هو المنتصر، وربطها بخاصرته يقيها شر الآخرين الموهوم. ظنت هذه القوى أنّ الغرب يقيم ألعابه فقط كرمى لسواد عينهيا. لم تتعلّم من تجارب الماضي الكثيرة، أنّ الغرب ليس له عشق ثابت كعشق الأعرابي بابنة عمه. غرقت هذه القوى بأوهامها أنها ذاهبة إلى الإنتصار طالما هي صاعدة في “باص” الغرب. انتظرت المحكمة الدولية لتجلب لها رؤوس معارضيها،  ونزلت بكل قوتها في الشارع تحت عنوان “ثورة”، والمطالبة بوهم إصلاح. خربطت البلد تحت حجة الفساد، وكان شعار معلميها محاصرة المقاومة بشعبيتها، وجمهورها، والبلد الذي نمت في ثناياه.

وعندما جاءت حكومة حسان دياب في محاولة للتوجه شرقاً، أدرك الغرب أنّه بات خارج اللعبة، وأنّه يفقد حضوره في الساحة التي بناها مرتعاً له منذ 1943. ولم يكن ينقص الغرب إلاّ ما واجهته السفيرة الأميركية، وسفارتها، من هزء واستهتار، فتيّقن الغرب أنّ لعبته خاسرة، وأنّ الحصان الذي راهن عليه لم يكن حصاناً.. بل حالة أخرى. وجد أنه لا بدّ أن يحضر بنفسه لتحصيل بعض حاجاته، فوقع انفجار المرفأ، فإذ بالبوارج تملأ المرفأ كأن المساعدات الإنسانية تحتاج لطائرات حربية.

لكنّ الغرب لم يشأ أن يقول إنّ أساطيله ليست للحرب، بل للهوبرة. قالها رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد: “إنّها استعراض قوة”. لكن ما لم تقله البوارج الحربية، والقادة السياسيون الذين أرسلوها، قالته المحكمة الدولية بالحكم الصادر عنها، والذي وصفه البعض من أنصارها، والمراهنين عليها أنه “تمخض الجبل فولد فأرا”.

حكم المحكمة تخلٍ عن الصراع بين الدول، ولو كانت المحكمة ستنطق بحكمها يوم كانت الولايات المتحدة الأميركية وحيدة في الساحة الدولية، لطلبت المحكمة رؤوس كل قادة المقاومة، والدول الداعمة لها، ولأنزلت “مارينزها” مجدداً في بيروت بأوحش مما كان عام 1982، وقد استرجعت مخيلة بعض أطراف قوى الرابع عشر من آذار ذلك التاريخ محاولة تجديده، فإذ بقرار المحكمة يحبطها، ويطلب منها “الضبضبة” قبل فوات الأوان النهائي على دورها ووجودها.

اليوم غير الأمس. محور الشرق متصاعد، والغرب متراجع، وبكل ما صنعه من محاولات استدراك لخسارته المطلقة، فإنّما كان محاولات لاستعادة بعض ربح نسبي يحتاج “هوبرة” من نوع حضور البوارج إلى مرفأ بيروت. أما المراهنون عليه، فمرّة جديدة لم يقتنعوا أنّهم لم يكونوا منذ 2005 اغتيال الحريري، إلاّ مجرد أدوات في مشروعه.

جاءت البوارج تشحذ بشرف بعض غاز من حوض المتوسط الشرقي، ولن يهبها إياه من خسروا الأكثرية النيابية، ولا من فشلوا في تحركات الشارع. وإذا كان ثمة من يهبها شيء منه.. ربما وجدته عند الأقوى.. في الطرف الآخر.

 

سمير الحسن

 

سمير الحسن

كاتب وباحث عسكري لبناني متخصص في قضايا الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى