مجتمع

دور الإنتاجات الدرامية في تصاعد العنف في لبنان

برزت في الآونة الأخيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب مقاطع فيديو لمسلحيّن مكشوفي الوجه يهدّدون بعضهم البعض على خلفيات ثأرية وما شاكل ذلك، يسمّون أنفسهم بالأسماء، ويتوعدون بالانتقام.

في السياق نفسه تنتشر مقاطع الفيديو لمواكب سيارة يخرج منها مسلّحون، وبعتاد كامل أشبه بالعصابات، قد تظن للوهلة الأولى أنك تشاهد فيلمًا سينمائيًا، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، إنّها مشاهد واقعية لتقاتل عائلات في مابينها تحت مسمى الثأر، وقد برزت إلى الواجهة في الأيام القليلة الماضية بعض من هذه المناوشات في منطقة بعلبك الهرمل وأخرى في الضاحية الجنوبية لبيروت.

هذه المشاهد ذكرتنا بما كنا نشاهده على الشاشات اللّبنانية في المسلسلات أو الأفلام التي لاقت رواجًا لدى اللّبنانيين، إذ باتوا يتأثرون بكل كلمة تلفظ وكل حركة تؤدّى فيها، حتّى أنهم أقاموا إسقاطات لها في حياتهم اليومية داخل المنزل وخارجه، وفي المشاكل داخل الأحياء بين مواطنين اثنين، أو بين عائلتين أو ربما أكثر.

الإختصاصي في علم نفس العمل محمد حسن بدرا وفي حديث لـ”أحوال” يلفت إلى أنّ الإنسان يتأثر كثيراً بالمادة المرئيّة والمسموعة التي تُعرض عيله لأنّها تلامس حواسه، مبديًا أسفه لما يتم عرضه من مسلسلات وأخبار تحاكي الغرائز، لافتًا إلى أن بعض المنتجين يركّزون على المواد المثيرة للجدل، لأنّ باعتقادهم تحقق لهم نجاحًا وأرباحًا، فذهبوا إلى تظهير مجموعة من العادات والتقاليد قد تكون سمة لمجموعة صغيرة في المنطقة ولكن يجري تعميمها على كلّ المجتمع.

هذه الأعمال حاكت المكبوت عند هؤلاء الناس، القائم على العشائرية والقوّة والبطولة وقدموها بشكل مشوّه، فشعر بعض الأشخاص أن هذه المشاهد تشبههم، وللأسف الناس تتعاطف مع الشخص الذي يقدَّم على أساس أنّه بطل، وهو في الحقيقة يكون خارج عن القانون ولص ويعتدي على حقوق الآخرين، وهنا حصل تماهي بين هؤلاء الأشخاص وبين ما شاهدوه على الشاشة.

ويؤكد بدرا أنّ لأفراد المجتمع مجموعة رغبات ومكبوتات يضبطونها لأنّ هناك سلطة عامة للدولة، وعندما تضعف سلطة القانون تضعف القوة الرادعة، وهنا تتطرّف الرّغبات المكبوتة وتتظهّر، لافتًا أنّ الذّي يحصل اليوم هو عنف، وأحد مصادر العنف هو ما يشاهده المواطن على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، فهناك مستوى عنف مرتفع في المادة التلفزيونية والإعلامية والسياسية، وهنا يتلقاه الناس ويكبتوه بوجود سلطة رادعة، وعندما تضعف هذه السلطة تتفجّر وتتظهر في المجتمع.

بدوره الصحافي المتخصص في المسرح خليل الحاج علي أشار إلى أنّ العنف والقسوة والدمار والخراب الذي نشاهده في الدراما يأتي استكمالاً للواقع الذي عاشه العالم العربي وتحديداً بلاد الشام، إذ لا يمكن أن تمر الأعمال الدرامية من دون تسليط الضوء على داعش مثلا أو الانفجارات أو حتى العنف الأسري وغيره، من هنا يلجأ المنتجون إلى مسارين:

المسار الأول يتمثل بالمعالجة الآنية للأحداث من خلال الدراما بشقيها الكوميدي أو التراجيدي، هذا النوع عادة ما يأتي وليدَ لحظته وضعيفاً وباهتاً وساذاجاً وسطحياً.

المسار الثاني الذي يأخذه بعض المنتجين والمخرجين هو انتظار بلورة الأحداث الكبرى، حتى يطرحوا ذلك لاحقاً في الأعمال الدرامية.

ولفت الحاج علي إلى أن ما يحصل اليوم هو أن الأعمال العربية، تستهلك الأحداث كلها دفعةً واحدةً بما يشبه ال Trend وتأتي ضعيفة، وتركّز على المعالجة السطحية والخارجية للأحداث، يضاف إلى ذلك رداءة في التمثيل والمحتوى والنصوص والإخراج، مما يضع المشاهد في خانة المتلقّي السلبي، الذي يتلقى الأفكار السطحية غير القابلة للتفكير أو التفكيك الذهني، كما يولّد هذا المسار انفعالات عاطفية على مستوى الأفراد الذين يتأثرون تأثراً شديداً بأبطال المسلسلات التلفزيونية.

ولفت الحاج علي إلى أنّ هذه الفئة من الناس التي لم تعتد مشاهدة الأفلام الكلاسيكية العالمية، أو قراءة مسرحيات شكسبير أو هنريك إبسن، تجعل من أي ممثل يقود درّاجة نارية أو يطلق الرّصاص في الهواء، أو يتاجر بالمخدرات، بطلا بنظرها، وإذا أردنا أن نذهب أكثر من ذلك، يرى رغباته وتطلعاته وشخصيته مجسّدة في هذا البطل أو ذاك.

عميد كلية الإعلام في جامعة المعارف الدكتور علي الطقش لفت إلى أن هناك جانب له علاقة بما يسمى بالأجندة أو المساحة الخبرية وسأل: ما هو حيّز الأطراف في الإعلام اللّبناني؟ كيف بإمكان مواطن عادي ومجموعات واتساب أن يكون لديها معلومات عن واقع الأطراف في لبنان، أكثر من ما هو حاضر على القنوات الرسمية والخاصة؟

وأشار الطقش إلى أنّ منطقة بعلبك الهرمل كما معظم الأطراف نالت نصيبها من الإهمال مرّتين، المرة الأولى عندما تُركت وأُهملت، والمرّة الثّانية عندما تم بيع العنف الذي شهدته كمادة أو كسلعة إعلامية لتحقيق الأرباح لشركات الإنتاج، لافتًا إلى أنّه عندما لا يكون هناك إنتاج ثقافي في الأطراف لتظهير الإرث الثقافي والشعبي والحضاري والقيمي فيها، سيأتي من يستثمر في هذه المساحة الفارغة، فالدراما المنتجة التي تنمّط أهالي المنطقة، هي بسبب غياب الإنتاج الموجه، الذي يظهّر القيم السامية فيها.

وأضاف الطقش أن الإعلام اللّبناني تمكّن من تطبيع عدة ظواهر، واستطاع أن يقضي على العديد من العادات السلبية كالعنف المدرسي والأسري ، إلّا أنّه لم يسعَ إلى محاربة ظواهر إطلاق النار والثأر وغيرها، وسأل: أين العمل الإعلامي والعمل التثقيفي الإعلامي لمقاربة هذه المشاكل ومعالجتها؟

هذه الهواجس نقلها “أحوال” إلى رئيس المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ الذي لفت إلى أنّ أغلب المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة لا تصل إلى الأطراف، وهنا تقوم بعض موقع التواصل الاجتماعي بسد الفراغ الحاصل، وبعض هذه المواقع تقوم بدور سلبي، عبر نشر الأخبار المفبركة والإشاعات، لإعطاء صورة متخلّفة عن المنطقة.
وحول دور المجلس في الرّقابة على الإنتاجات التي تؤثر على الاستقرار الأمني والمجتمعي، لفت محفوظ إلى أنّ عمل المجلس مقتصر على وضع التقارير الدورية ورفعها للحكومة وكلّها توضع في الأدراج حسب تعبيره، تحت حجّة أنّ المجلس ليس له سلطة تقريرية وإنّما استشارية، مؤكدًا أنّ مشروع قانون الإعلام الجديد الموجود في لجنة الإدارة والعدل النيابية، يعطي المجلس الوطني للإعلام صلاحيات تقريرية، ويحرّره من القيود، ولا يعود لأيّ طرف حق التقرير بهذا الأمر، إسوة بالمجالس الإعلامية الموجودة في أوروبا، وهذا يحل جزءاً كبيراً من المشكلة، إذ يلحظ مشروع القانون الجديد غرامات مالية أو إيقاف برامج أو إيقاف بث أو سحب ترخيص، في حال إثارة النعرات الطائفية والمذهبية وكل ما يهدّد الاستقرار والسلم الأهلي، دون المساس بالحرية الإعلامية التي كفلها القانون، ودعا محفوظ لأن يلعب الإعلام دورًا بنّاءً في نشر الوعي والثقافة عبر ما يقدمه ويطرحه للرأي العام.
مشكلة التفلت الأمني والمظاهر المسلحة التي شهدناها، وسنبقى نشاهدها مع كل عملية ثأرية أو إشكال بسبب خلاف حول ميراث أو ربما أفضلية مرور، منشؤها بالدرجة الأولى إلى شعور المواطن بغياب الأب الراعي أي الدولة وأجهزتها، في فرض القانون والسلطة على الجميع، فيلجأ كل شخص إلى أخذ حقّه بيده، تأتي بعدها المشاهدات التي تُبث صبحًا ومساءً على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي، تحت عناوين العنتريات وعرض العضلات التي لا طائل منها.

 

منير قبلان

منير قبلان

باحث قانوني. إعلامي ومعد برامج وتقارير سياسيّة واجتماعية. يحمل شهادة الماجيستير في الحقوق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى