رياضة

دييغو مارادونا.. “العظماء يبقون وإن رحلوا”

من لم يشاهد “دييغو مارادونا” يسطّر الملاحم الكروية أو يداعب الكرة، فقد فاته نصف عمره؛ ومن لم يستمتع بلمساته السحرية من وراء الشاشة الصغيرة أو من أرض الملعب في فترة الثمانينات الذهبية، فقد فَقَدَ لذّة ما بعدها لذة؛ ومن لم تجحظ عيناه على ما قدّمه الأسطورة، فقد أفرغ مخيّلته من ذكريات جميلة كانت ستبقى “سيمفونية” تدغدغ عواطفه وأحاسيسه وقلبه، ما بقي في هذه الحياة.

وكأن هذا الفتى الأرجنتيني الفقير أحبّ أن يوصل رسالة خاصة إلى العالم، بشعره الأسود الأجعد وقامته القصيرة وقدمه اليسرى التي تجذب الكرة إليها كالمغناطيس، وفنياته التي أجمع كبار علماء كرة القدم أنها لا يمكن أن تتكرّر، إذ جمع “الكاريزما” والسحر والمتعة بتقديم أجمل ما يكون داخل المستطيل الأخضر، والأهم من هذا كلّه جمع حب الجماهير واستقطب المشاهدين من كل حدب وصوب.

إلى جانب ما ذُكر، جمع مارادونا الثروات المالية الطائلة ولكنها كانت الوحيدة التي تبدّدت وتبخرت، وفي المقابل أقسم اليمين على أن يجعل “بلاد الفضّة” تضحك وتفرح، فكان له ما أراد في مونديال مكسيكو 1986، حيث كان للأرجنتين الفقيرة والمثقلة بالجراح آنذاك، منقذ واحد إسمه “الفتى الذهبي”.

نعم لقد فعلتها يا دييغو!… نجح مارادونا بعبقريته وشخصيته “السلطوية والمحبوبة” في آن، بقهر الألمان في نهائي هستيري انفجرت معه مدرّجات ملعب “ازتيكا” الشهير، وبكى كل شعب الأرجنتين فرحًا متناسيًا همومه، وبكى المعلّق وهو يصرخ “تعيش الأرجنتين.. تعيش المكسيك.. تعيش قارة أميركا”، ورقص مارادونا ورفاقه من منتخب “البي سيليستي” داخل غرفة تبديل الملابس بعد اللمسة السحرية من يسراه حين “لمح” زميله غير المراقب “خورخي بوروتشاغا”، ومرّر له الكرة التي نحرت الحارس “هارالد شوماخر” ومدافعه المسكين “هانز بيتر بريغل”، وفجّرت الملعب بطريقة جنونية، وذلك بعدما كان “العبقري” قد ترك البصمة المميزة في مرمى الحارس “بيتر شيلتون” حين دكّ شباكه بالهدف الذي اعتُبر الأجمل في نهائيات كأس العالم، ووُصف بـ”هدف القرن” إذ غربل نصف الفريق الإنكليزي وأودع الكرة بكل ثقة بعدما “سرق” الهدف الأول بيده أمام 114 ألف متفرج وملايين المتابعين من وراء الشاشات. دييغو أراد يومها أن يرد على حرب “المالوين” التي شنتها إنكلترا على بلاده بهدف استعادة جزر “فوكلاند”، فكانت “الحرب الكروية الناعمة” من مارادونا ورفاقه.

دييغو أنت اليوم مع صديقك في المنتخب “خوسيه لويس براون” الذي افتتح التسجيل في نهائي المونديال، وسبقك قبل سنة وثلاثة أشهر إلى دار الخلود والبقاء. هناك ستذكران معًا يوم 29 حزيران/يونيو 1986 طويلًا.

أيقونة نابولي

أكمل مارادونا مغامرته في إيطاليا ليدافع عن ألوان “نابولي”، المدينة الساحلية الفقيرة، فصار عاشقًا لأهلها وملهمًا لكل سكانها وكأنّه أراد أن يرسم بقدمه اليسرى مجدًا عظيمًا، فكانت هذه القدم هي الريشة التي “لوّنت وزيّنت” ملعب “سان باولو”، كما قاد الفريق الأزرق إلى المجد ومنصات التتويج في وجه وجهاء ميلانو وتورينو، “ميلان وانتر ويوفنتوس”، حتى بات يسكن القلوب، حيث انتشرت رسوماته على حيطان البيوت داخل الأزقة المدقعة بالفقر، وارتفعت أعلام نابولي العملاقة وفي داخلها أيقونة مارادونا على الشرفات والسطوح، حتى أن مطاعم البيتزا أطلقت إسمه على منتجاتها وأُقيم له تمثال في قلعة “دل اوفو” بعدما نجح المارد القصير في انتزاع أول لقب لنابولي في الدوري الإيطالي.

قاد مارادونا بلاده إلى نهائي مونديال إيطاليا، ولكن شاء القدر أن يبتسم هذه المرة للألمان فانقلبت الموازين؛ بكى مارادونا مجددًا ولكن هذه المرة كانت دموع الأسى واللوعة على فقدان اللقب، بعد أن أبكى البرازيليين في مباراة لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة، لأن كل من شاهدها لم يصدّق أن منتخب “راقصي السامبا” لم يخرج بمجزرة من الأهداف في حق منتخب التانغو.

مرّت الأيام وأصبح دييغو مدرّبًا، وقادته ظروف العمل إلى الخليج وتحديدًا إلى الوصل الإماراتي، حيث تلقف خبر التعاقد بلهفة وشوق بعد أن كان بأمسّ الحاجة إلى المال كي ينهض من كبوته، فقام بشراء “صليب ذهبي” كبير وغيره من الحلي وبعض الهدايا لأفراد أسرته، فلقد كان منهكًا وعاد إلى الحياة من جديد.

أما عام 2013، حط فريق الوصل في ملعب الخور القطري للعب في بطولة الأندية الخليجية، وكان الكل ينتظر خروج مارادونا من الغرف السفلية للملعب، وكان من بين المتواجدين على المنصة الرئيسية، نجم منتخب إيطاليا التاريخي اليساندرو التوبيللي، الصديق الحميم للنجم الأرجنتيني والذي أحرز كأس العالم لبلاده عام 1982، إلا أن دييغو لم يلاحظ وجود صديقه، وكان تركيزه على فريقه والمباراة، كما أنه لم يتفاعل مع طلب الجماهير للاقتراب منهم وأخذ صورة تذكارية أو اوتوغراف، فما كان من التوبيللي إلا أن وجّه “كلمات نابية” بالايطالية إلى صديقه من باب المزاح وبقصد لفت النظر، عندها استدار المدرب دييغو وهروَل صوب اليساندرو ليعانقه بحرارة.

صفحة مارادونا طُويت جسديًا، لكنها لن تُمحى من ذاكرة جماهير كرة القدم، فالعظماء وإن غابوا يبقون بيننا، والملاعب الأرجنتينية والعالمية لن تنسى صولات وجولات “El pipe D’oro” ، أي “الفتى الذهبي” الذي كان في يوم من الأيام ملهمًا حقيقيًا لكل عشاق الساحرة المستديرة.

دييغو مارادونا سيبقى اللاعب الأكثر جدلًا عبر التاريخ، هو الذي لم ينسَ سنين الفقر رغم العيش الكريم الذي تمتّع به فيما بعد، فهو صاحب جملة كان يبكي حين يرددها عن والده: “لقد كان يقسم ظهره من أجلنا.. كان يريدني أن أذهب إلى المدرسة لكنني اخترت طريقًا آخر”.

دييغو.. ارقد بسلام.

سامر الحلبي

سامر الحلبي

صحافي لبناني يختص بالشأن الرياضي. عمل في العديد من الصحف والقنوات اللبنانية والعربية وفي موقع "الجزيرة الرياضية" في قطر، ومسؤولاً للقسم الرياضي في جريدتي "الصوت" و"الصباح" الكويتيتين، ومراسلاً لمجلة "دون بالون" الإسبانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى