“المحاكمات عن بُعد”.. إجراءات تنقصها بعض التدابير
صدر “قانون المعاملات الالكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي” ورقمه 81، بتاريخ 10/10/2018، وقد نُشر حينها في الجريدة الرسميّة، بهدف سدّ ثغرة كانت تشكّل عائقًا أمام دخول لبنان عصر المعلومات، واللحاق بمركب التطوّر الذي تشهده العديد من الدول، سيّما دول المنطقة التي قطع بعضها أشواطًا كبيرة. ورغم أنّ هذا القانون لم يُعالِج مسألة المحاكمات الالكترونيّة بشكل مباشر، لكنّه جاء كتمهيد لاعتمادها.
ومع ارتفاع معدّل الإصابات بفيروس كورونا في لبنان، ونسبةً لصعوبة حماية المساجين والطاقم القضائي من جهة، والحاجة إلى الإسراع في محاكمة الموقوفين للتخفيف من اكتظاظ السجون من جهة أخرى، كان لا بد من إجراء المحاكمة الأولى “عن بُعد” في أيلول من العام الفائت 2020، وذلك بمبادرة من نقابة المحامين وبالتنسيق مع القضاء الأعلى.
وبحسب المحامي جيلبير أبي عبّود، تكلّلت هذه التجربة بالنجاح، إذ تمّ توثيق محاضر جلسات المحاكمات التي جرَت ورقيًّا وإلكترونيًّا، كما أُديرت الجلسات بشكلٍ طبيعي أمام محكمة الجنايات في بيروت خلال شهر أيلول من العام ٢٠٢٠، “سيّما بعد اشتداد جائحة الوباء وبروز الحاجة المُلحّة إلى عقد مثل تلك الجلسات”.
وعليه، أكد أبي عبّود في حديث لـ”أحوال” ضرورة ألّا يبقى اعتماد المحاكمات الالكترونيّة مُقتصرًا على بعض المحاكم الجزائيّة، وبخاصّة قضاة التحقيق، بل يتعدّاها ليشمل المحاكم المدنيّة، فـ”نحن كمحامين نحتفظ بالعديد من الملفّات المُجمّدة منذ أكثر من سنة، بسبب الأحداث الأمنيّة والسياسيّة في لبنان، عطفاً على ظروف الإقفال والوباء الصحيّ”.
تجربة من لبنان
وفي هذا السياق، تحدّث أبي عبّود لموقعنا عن تجربته الإلكترونيّة، بمعرض حضوره جلسات مُحاكمة عن بُعد أمام قاضي التحقيق في بيروت، وائل صادق، لافتًا إلى بعض العوائق المُتعلّقة بضعف شبكة الإنترنت بسبب عدم دخول “الفايبر أوبتك” بالشكل الفعليّ والكامل إلى لبنان، فضلاً عن عدم تجهيز المحاكم بالتقنيّات اللازمة بسبب كلفتها العالية المفروضة بالدولار، في ظلّ الأزمة الإقتصاديّة البالغة التي تمرّ بها البلاد.
إيجابيّات “المحاكمات عن بعد”
من هنا، رأى المحامي أنه كان يجب أن تُبادر وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى إلى إطلاق هذه المحاكمات بخطوات تنظيميّة وتشجيعيّة، سيّما بعد إقرار قانون المعاملات الإلكترونيّة في العام ٢٠١٨ والذي من شأنه أن يُسهّل إطلاق مثل هذه الورشة، “لكنّنا لا نزال وبكلّ أسف غارقين في الروتين القضائي التقليدي، ولا تزال معظم المحاكم مُغلَقة بسبب الوباء الذي لا نعرف متى سينتهي”، بحسب أبي عبّود، الذي تابع قائلًا: “وإن انتهى، يبقى خيار اعتماد “المُحاكمة عن بُعد” مُهمًا لكونه يُسهّل عمل المحامين والقضاة والمواطنين، ويحدّ من الحيّز المكاني الذي يحتاجه الأرشيف القضائي، ويُساهم في الوصول بشكلٍ أدقّ وأسرع إلى الملفّات والمعلومات، إضافةً إلى كونه يحميها من التلف أو الفقدان، فضلًا عن كونها تُخفّف من الازدحام في المحاكم، وتُقلّل من النفقات، الأمر الذي من شأنه أيضاً أن يزيد عدد القضايا التي يُمكن أن ينظر بها القاضي في اليوم الواحد”.
إلى ذلك، شدّد أبي عبّود لـ”أحوال” على أن اعتماد “المُحاكمة عن بُعد” من شأنه أن يُفعّل العمل القضائي والعدليّ ويُحسّن مستوى العاملين في هذا القطاع من جهة، ويُسرِّع في حصول الناس على حقوقهم من جهةٍ أخرى، علمًا أنّ “المحكمة الإلكترونيّة لا تختلف عن المحكمة التقليديّة في تأمين ضمانات المُحاكمة العادلة، لجهة مُراعاة مبادئ العلانيّة والوجاهيّة والشفافيّة”، بحسب قوله، إذ لفَت في نهاية حديثه إلى تجارب مُماثلة في دوَل المنطقة، يمكن التمثّل بها كالإمارات العربيّة المتّحدة وسواها من الدول، التي باتت “تُقدّم الخدمات والمعاملات القضائيّة بشكلٍ رقميّ، أيّ تقوم على أساس تبادل مُفردات ملفّات الدعاوى، من خلال نقلها عبر البريد الإلكتروني، بحيث يجري ضمّها إلى ملف المحكمة وإرسال إشعار إلى المتقاضي لإعلامه بما تمّ بشأنها، بلوغاً إلى إصدار الأحكام بعد إتمام تبادل اللوائح والمذكّرات الخاصّة بها بالوسيلة الإلكترونيّة نفسها”.
العراقيل التي تقف في مواجهة المحاكمات الالكترونيّة
بدوره، أكّد المحامي باسل عبّاس في حديث لـ”أحوال” وجود جملة إيجابيّات جراء اعتماد “المُحاكمة عن بُعد”، تتعلّق بـ”تأمين حماية صحيّة لجميع أطراف القضيّة، إضافة إلى كونها وسيلة تختصر الكثير من الوقت والاجراءات، بدلًا من اعتماد “سوق الموقوف” الذي باتت وسيلة تقليديّة وتشكّل عرقلة أمام سير المحاكمات أيضًا، لأسباب عدّة كإلغاء جلسة بسبب تعذّر وصول أحد الموقوفين مثلًا، إمّا بسبب حالة الطقس أو قطع الطرقات أو غيرها من الأسباب الأمنيّة الطارئة في البلاد”.
ولكن في الوقت عينه، لم ينفِ المحامي عباس وجود العديد من العقبات التي قد تقف عائقًا أمام اعتماد “المحاكمات عن بعد”، والتي لخّصها ببطء شبكة الانترنت في لبنان، إضافة إلى احتماليّة انقطاع التيار الكهربائي بشكل مفاجئ، أو حدوث عطل فنيّ الكتروني، “وجميعها مشاكل قد تصعّب على الموقوف إيصال فكرته، أو فهم سؤال القاضي له، وقد تعثّر قدرة المحامي على التواصل البصري مع الموقوف لإرسال إيحاءات عبر تعابير وجهه حين تستدعي الحاجة، بالإضافة إلى إمكانية تعرّض الموقوف للتعذيب الجسدي أو المعنوي داخل مكان استجوابه، وعدم الإفصاح عن ذلك أمام القاضي”، بحسب تعبيره.
وانطلاقًا من ذلك، رأى المحامي باسل عبّاس في حديثه لـ”أحوال” أنه “يجب اعتماد آليّة تنسيق تقني/فنّي، وفق تعليمات وتوجيهات من وزارة العدل، ووفق آليّة معيّنة تتّفق عليها مع نقابتي المحامين، يتم تعميمها على القضاة والمحامين، بالتنسيق مع مهندسين إلكترونيين متخصصين في هذا المجال، لتنجح هذه التجربة وتفي بالغرض المطلوب دون أن تعود بالضرر على أي طرف.
تجربة من تونس
وللحديث عن تجارب عربيّة مماثلة، نذكر تونس التي بدأت فيها “المحاكمات عن بُعد” ضمن المحكمة الابتدائيّة في مدينة “سوسة”، ونصّ المرسوم المنظّم لها على إمكانية إجراء محاكمة المتّهمين من داخل المؤسسة السجنيّة، من خلال الربط تقنيًّا بالسجن، على أن يترك لمحامي المتهم، خيار المرافعة في الفضاء السجني أو في مقر المحكمة.
ومن أبرز إيجابيّات المرسوم، بحسب ما أدلى به المحامي التونسي كريم السويسي لـ”أحوال”، أنّه أتاح إمكانيّة إجراء المحاكمات دون تعرّض أطراف القضيّة لخطر الإصابة بفيروس كورونا، إلّا أنّه “لم ينظّم مسألة تسجيل تلك المحاكمات، وآجال الإحتفاظ بتلك التسجيلات واجراءات إتلافها حماية للمعطيات الشخصية”، لافتًا إلى أن المحاكمة عن بُعد تفتقد إلى أهم جانب في القضاء الجزائي، وهو حضور وجدان القاضي.
مشاكل موحّدة في معظم الدول العربيّة
وذكر المحامي السويسي افتقار تونس إلى الناحية التقنيّة، وبالتالي فإن وضوح الصوت والصورة مرتبطان بضعف شبكة الانترنت، والذي يجبر هيئة المحكمة إلى رفع الجلسة أحيانًا، خاصّة في القضايا الجنائيّة التي تستدعي ظروفًا ممتازة للتدقيق في الوقائع وإصدار الأحكام القضائية بشكل صائب، “لذا لا بدّ من إدخال عناصر بشريّة متخصّصة في المجال التقني إلى المحكمة والسجن، كي تتابع عن كثب معالجة أي عطل بشكل سريع”، بحسب قوله.
وختم المحامي التونسي حديثه لـ”أحوال” بالتأكيد على أن البنية التحتيّة التي تتمتّع بها دول الخليج، تساعدها على تأمين ظروف أفضل للمحاكمة، ما قد يجعلها رائدة في هذا المجال.
وبالعودة إلى المحاكم اللبنانيّة، يبقى السؤال: “متى يتم اعتماد آليّة لا تحتاج سوى إلى بعض التنظيم وإلى إعطائها أولويّة الجودة التقنيّة، لضمان حسن وسرعة ودقّة سير العدالة؟!”.
تيمة حطيط