مستقبل الإعلانات في لبنان بعد كورونا والأزمة الإقتصادية وانفجار المرفأ
يرنّ الهاتف وما من مجيب، كثيرة هي وكالات الإعلان التي أقفلت أبوابها، ومن يجيب على اتصالك قد يرفض التحدث لأنّه “ما في شغل”. مخرجو إعلانات لملموا حقيبتهم ورحلوا، مفضلين “البدء من الصفر”، بعيداً عن لبنان وشبح الانهيار القادم.
فما التغيّرات التي طرأت على الإعلان بين الأمس اليوم؟ وماذا عن مستقبل هذا القطاع وسط انهيار لم يرحم قطاعاً إلا وأصابه في لبنان؟
دانيال الجر: كل شيء تغير ولم يتغير شيء
لطالما كان الإعلان موجوداً، يقول دانيال الجر، رئيس قسم الإبداع في وكالة its Communications ، “فكل شخص لديه فكرة يخترع طريقة لايصالها للناس لتنال قبولهم”.
بدأ لبنان باستيعاب الإعلانات مبكراً وبشكل صحيح برأي الجر. فمنذ السبعينيات، ساهم تلفزيون لبنان وكذلك دور لبنان الريادي في مجال الطباعة والنشر في المنطقة، بنهضة الاعلان، فاحترف اللبنانيون تلك الصناعة وعلّموها في جامعاتهم.
وكان اللبناني صانع الإعلانات الأهم في الشرق الأوسط، وكان ممسكاً بجوانب القطاع كافة: الاستراتيجية الإعلانية، إختراع المحتوى، تصوير الإعلان، والوسيلة المعلنة.
وعن الإعلان بين الأمس واليوم، لم يتغير شيء وكل شيء تغير. فالمنطق هو نفسه لم يتغير، هناك فكرة نهدف لبيعها، وفريق يوصلها بأسلوب ابداعي، معرّفاً المستهلك عليها.
من ناحية أخرى، لا ينكر الجر أنّ تغيّراً كبيراً طرأ على التقنيات ومعدات التصوير و”الإيقاع”، فإعداد الإعلان كان يستغرق أشهراً، أما اليوم، فقد يستغرق إنجازه على فايسبوك ساعات فقط.
الوسيلة المعلنة أيضاً طرأ عليها تغير كبير، بعدما حلّت تطبيقات جديدة مكان التلفاز والراديو. كما ازداد الطلب على الإعلان وانخفض سعره، وهو أمر وسع من نطاق العمل.
فبعد أن كانت هناك 20 وكالة إعلانية في لبنان، أصبح هناك 200 وكالة، وصار الإعلان متاحاً للجميع. لكن الوتيرة السريعة انعكست على الابداع سلباً.
الإعلان واللحظة النادرة
رسّخت إعلانات التسعينات بعض المنتجات في ذهن اللبنانيين، وجعلتها لسنوات الأكثر مبيعاً.
فحليب نيدو معه “ربيوا الولاد الصغار”، ومع العم أبو فؤاد الدكنجي ردد اللبنانيون شعار “يس 3 بواحد” كإنعكاس لتعدد استخدامات هذا المنتج.
نسأل الجر الذي نال جوائز عالمية عدة وعمل في الشرق الاوسط وأفريقيا على أكثر من 450 إعلاناً وفيلم وحملة إعلانية لأكثر من 20 عاماً، نسأله عن الإعلان الذي يحقق الفكرة والنتيجة المثالية، ليجيب “ليست كثيرة الحملات التي أدت واجبها حول العالم”. معتبراً ان “5 % فقط من عملنا يمكن الوصول به للمثالية؛ فيما تتمثل العلامة الفارقة بالابداع”.
وكي يؤدي الإعلان مهمته، يجب أن يكون الزبون “مثقفاً” فلا يتردد بالقبول بالفكرة الإبداعية؛ وهي لحظة تلاقٍ بين الفكرة المثالية موضوع الإعلان، وبين المحتوى الإعلاني، والزبون الذي “يخاطر”، والأموال اللازمة، والوكالة الإعلانية، والمبدع “القبضاي”؛ وهي لحظة نادرة كالـ” stars to align”.
وكمحاكاة لكلام الجر، نذكر الإعلان “1984 ” الذي كان محورياً في عالم الصناعة الإعلانية، فتدمير صورة “الأخ الأكبر” في تشبيه لرواية جورج أورويل، جعل من “أبل” تنافس مايكروسوفت و “أي بي أم”، فكانت جودة المنتج بمستوى جودة الفكرة الاعلانية.
وعن “المخاطرة”، نذكر إعلان منتج RC في الفيليبين، والذي يعتبره البعض مقززاً، ومع هذا رفع مبيعات المنتج في البلاد بشكل قياسي.
جو أبو خالد: الإعلان يلحق المستهلك
احتاجت صحيفة النهار قراراً شجاعاً عندما صدرت بـ 8 أوراق بيضاء خالية من أي خبر، لتحصد “الجائزة الكبرى للطباعة والنشر” في مهرجان “كان” الدولي. فصرخة “الصفحة البيضاء” وصلت إلى العالم!
يقول جو أبو خالد، مدير الإبداع في وكالة “Impact BBDO” الذي حصد “الأوسكار”: مع التطور، ما عاد المستهلك أمام التلفاز وحده، فهناك الهاتف المحمول، و”عملنا يقتضي اللحاق بجمهورنا أينما كان”.
وبرأي أبو خالد، لم تضرّ السوشال ميديا بقطاع الإعلانات، فهي تسير بالتوازي مع وسائل الإعلان الاخرى، وفق قاعدة الشاشات المتعددة. وهذا أثر على تراجع الإخراج والمواد التلفزيونية، لكنها ثورة ذات اتجاه عالمي وليست محصورة بلبنان.
بعد ثورة تشرين وأزمة الدولار، وانفجار 4 آب، تضرّر الزبائن المعلنون وتأثر بيع منتجاتهم وكذلك قدرتهم على تسويقها.
في المقابل، يلفت أبو خالد إلى أن اليد العاملة في لبنان باتت أرخص وهو عامل جذب لدول الخليج لتوظيفها.
أفكار الإعلانات… تأثر بالجماهير
من منكم لا يذكر “قساطلي شتورة جلاب”، أو “الشمس بتنزل تتغندر بالوادي الأخضر”، و”باريلا ماكاروني… شو طعمة يا عيوني يا عيوني” و “clipp clipp.. تعا دس شوف شو ناعم!”.. فالإعلانات اللبنانية تميّزت بالإغاني في الماضي ووصلت عبرها لجماهيرها.
في المقابل، يرى أبو خالد أن الإعلانات تتأثر بالمنطقة وليس بالزمن. فالاغاني لم تعد “ترند” الإعلانات في لبنان، لكنها ما زالت رائجة في مصر لأنها مرغوبة من الشعب المصري.
نقيب الاعلان: لسنا أقوى من الأحداث
يرى رئيس نقابة الإعلان جورج جبور أنّ قطاع الإعلانات يمر بأزمة كجزء من الحلقة الاقتصادية. فأرباح سوق الإعلانات عام 2018 بلغت 200 مليون دولار، فيما لم تتجاوز الـ15 مليون دولار عام 2020، ويعزو ذلك إلى العامل السياسي.
والأزمة تعود لسنوات للوراء، منذ مرور الجرائد والمحطات التلفزيونية بشح في تمويلها، وحتى إعلانات السوشال ميديا تخضع “للفرش موني”، والمشكلة كبيرة.
في المقابل، أطلقت النقابة حملة “أنا أعلن” لتشجيع المعلنين، “لكن اضطررنا أن نوقفها أمام كارثة انفجار المرفأ. ورغم استئنافها في ايلول، لكننا لسنا أقوى من الأحداث والأزمات المتلاحقة”.
الوفاء للعلامة التجارية ما عاد ممكنا والحل سياسي
ويتابع رئيس نقابة الإعلان “بات المستهلك يبحث عن السعر الأرخص بمعزل عن العلامة التجارية؛
لبنان بلد صغير، يقول جبور، “ومع احترامي لكل المنظرين ليست لدينا مقوّمات لتحويل اقتصادنا للزراعة. فهل نوقف التزلج ونزرع جبالنا بندورة؟ وهل إذا أصبح الطبيب مزارعاً يتحسن اقتصاد البلد؟”.
يرى جبور المخرج للأزمة من بوابة الاقتصاد والاستثمار، ويستشهد بـ”الـ70 مليون دولار أرباح من الشركات الاجنبية، والـ 70 مليوناً لإعلانات القطاع المصرفي التي خسرنا جزءاً كبيراً منها بسبب الأزمة”. وبرأيه، فالازدهار يعود مع الإنفتاح على العالم، عوض “سيطرة الإنغلاقات التي جلبت لنا الويلات”، ونحن همزة وصل تاريخية، وعلينا استعادة دورنا.
ماذا عن مستقبل الإعلانات بعد انفجار المرفأ؟
يربط أبو خالد الحل بـ”قيامة” لبنان. مؤكداً أننا نتعاون مع شركاتنا خارج البلد منعاً لتأثير الأزمة على موظفينا. ونخصص أفكارنا وجهودنا لدعم الصناعات المحلية والجمعيات التي تسعى لانتشال لبنان من الغرق، وهذا دورنا تجاه بلدنا.
بدوره، يرى الجر أنه بعدما كانت لدينا أفضل نوعية إعلانات، أصبحت النوعية في خطر، كما أن خسارة انطوان شويري لم تعوّض، واللبناني لم يتواضع و يطور نفسه، وهجرة الأدمغة تزيد المشهد صعوبة.
“لست خائفاً على الإعلان، لكنني خائف على الثقافة”. يقول الجر الذي يدرك أن شركات الإعلان “عم تاكل قتلة” اليوم، لكن بمجرد فتح السوق من جديد، أسعارنا التي باتت مقبولة ستستقطب الزبائن.
ونسأل مبتكر “” story of Beirut التي اعتبرتها الـ CNN، “إعادة للأمل في المنطقة”، عن تصوره لعمل ابداعي جديد لبيروت في المستقبل. ويجيب بصوت مختنق “الوجع بيطلّع ابداع بس بدو وقت”.
عام 2020 انتهى عقد شركة الشويري في السعودية، وهي انتكاسة لهذه الإمبراطورية الإعلانية في الشرق الأوسط، فالانهيارات لم تأت فرادى. وليس بوسع اللبنانيين سوى انتظار ولادة جديدة بعد المخاضات العسيرة، في وطن يحب الحياة، رغم قساوتها.
فتات عياد