ماذا تخسر السياسة لو غاب المحلّلون؟
لم يكن الإعلامُ سابقاً يَعرف ظاهرةَ المحلّل السياسي، في عهد الإذاعات والتلفزيونات المحدودة العدد. كانت الوسائلُ المسموعةُ والمرئيّةُ تستقبل الصحافيين ورجالَ السياسة ليقدّموا قراءاتهم للأحداث وإحاطاتهم بالمشهد السياسي. وكان هؤلاء ملمّين ومثقّفين، ولهم باعٌ في مجال اختصاصهم وعلاقاتٌ، وكان الجمهورُ قانعاً…
لكن العصرَ اختلف، وتبدّل أهلُه وتغيّروا، وبزغ نجم المحلّل السياسيّ في عالم الإعلام الجماهيريّ فشكّل ظاهرةً، وانخرط – أو أُريد له الانخراط – في ممارسة الهيمنة على الفضاء الخبريّ والثقافة السياسيّة إذ غدا صاحبَ الخبر والعالمَ بحيثياته، والمبشّرَ بفائدته والمنذرَ من عاقبته، بل تجاوز المحلّلُ مهمتَه في تقديم القراءات السياسية إلى الفعل السياسي، وتنقّل بين خياراتٍ أحدها الترشّح لمقعد نيابيّ أو حكوميّ…
لكن المفارقة تمثّلت في “العالِم” و”الفاهِم” الذي بات مادّةً للتندّر لدى كثيرٍ من النّاس، لا سيّما بين المثقّفين وأهل الاختصاص الذين يعلمون أنّ كثيراً من المحلّلين لا يفقهون في مجالهم كثيراً، حالهم حال المشعوذين، من أمثال ليلى عبد اللطيف ومايك فغالي…. الذي بشّرنا بانبعاث عبد الناصر في قامة أحدهم…!
والمثيرُ في سيرة المحلّلِ الأنموذج ادّعاؤه عناوين إعلاميّة، وفوقَها أخرى بحثيّة؛ فإذا ما سارعنا إلى التحقّق من تلك العناوين لم نجدْ إلا الخيبةَ؛ فليس المحلّلُ رئيسَاً لمركز دراسات غير موجود، ولا خفيراً على بابه! وليس للمحلّل الزعيم فريقٌ بحثيٌّ تحت قيادته ولا دراساتُ ولا ملفاتٌ ولا حتى قصاصات أوراق ولا صفحات مسوّدة يسترُ بها عورته التحليليّة. ونسأل إن كان هذا الذي يدّعي التّخصّص بل الخبرة قد زار أو تعرّف منطقةً من المناطق الاستراتيجية التي يُبلي فيها شرّ البلاء تنميقاً ومعلومات… ولم ننسَ بعدُ حين كان المحلّلون يتناولون الغزو الأميركي لأفغانستان كيف تحدّثوا عن الجبال الشاهقة ووعورتها ليحسموا صعوبة الدخول إلى أفغانستان بل استحالة ذلك… وكان أن دخل الغزاة!
كانت التعليقاتُ التحليليّة من الوهم، ونصيُبها من الصّحّة كان ضئيلاً جداً… وكانت الميادينُ والساحاتُ التي تحسم، إلى جانب الخبرة، وتترك لتعليقات المحلّلين الخيباتِ!
فمن ذا المحلّلُ الذي أتحفنا دهراً ؟
وأين هو من السياسةِ والعلميّةِ؟
بل أين يقفُ بين الوطنيّةِ والعمالةِ؟
وأين المنطقُ من عمله، بل أين الحساسيات والمشاعر والعصبيّات؟
نقولا: بعض المحللين عملاء
تفرّق د. ليلى نقولا (أستاذة جامعية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية) في حديثٍ إلى “أحوال” بين ثلاثة أقسام من المحلّلين الذين ينشطون في مجتمعنا، فتجد فيهم رجلَ العلم والآخرَ الوطنيّ المتحمّسَ والثالثَ العميل، وتقول: “في مجتمعنا الكثيرُ ممن يُسمّون محلّلين، وهم جزءٌ من ظاهرة التحليل السياسيّ المرتبطة بتوسّع وسائل الاتصال وبالفكرة القديمة القائمة على الاستعانة بكلّ هؤلاء في وسائل التواصل، على اختلاف أنواعها، للقيام ببروباغندا سياسيّة… وهناك العملاء الذين يخرجون، بحسب توجيه سياسيّ معيّن، لتوهين نفسيّة الأمّة وتحطيم معنويّات مجتمعهم لصالح العدو، وهذا ما نلاحظه كثيراً اليوم. فالعنصر الاستخباريّ حاضرٌ في المشهد، والاستخباراتُ توظّفه في سياق توجيه رسائل إلى المجتمع، أو في سياق تبادل الرسائل بين أقطاب الطبقة السياسية، بصيغة غير مباشرة، ومن دون خلق حساسيّة”.
لكن د. نقولا تؤكّد حضور المحلّلين السياسيين الحقيقيين، على الرغم من أسفها لحظّهم العاثر على مستوى التقدير وحقول العمل البنّاء، وتقول: “هناك المحلّلون السياسيّون الذين اكتسبوا التحليل والسياسة بوسائل علميّة، وأتقنوا مفاهيم واستراتيجيات، ويقدّمون فعلياً مستوى من الوعي في المجتمع، لكنّهم مُقصَون بنسبةٍ معيّنة لصالح القسمين الآخَرين”.
المحلّل جزء من نظام الهيمنة
ولا تجد نقولا “ظاهرة المحلّل السياسي جديدة بحدّ ذاتها”، وتربط بينها وبين العلاقات الطبقيّة في المجتمع حيث طبقاتٌ مهيمِنة وأخرى مُهَيمَنٌ عليها، في سياق من التنافس والغلبة، خصوصاً في عصر تطوّر وسائل الاتصال، وتقول: “في هذا المجال، يُمكننا الاتّكاء على مقولة المفكّر الإيطالي غرامشي الذي تحدّث عن الهيمنة الثقافية، وكيف تقوم الطبقات العليا في المجتمع بالسيطرة على الشعب عبر مثقفيها ومن يسوّق لها أفكارها من الذين يدّعون صفة الخبراء؛ وهذه البنية هي التي تسوّق الأخبار”.
وتُضيف: “لقد أصبح باستطاعة كلّ شخص أن يدّعي بأنّه محلّل سياسيّ أو مثقف سياسيّ أو خبير في السياسة، ويبثّ رسائله إلى الجمهور عبر وسائل التواصل الكثيرة”.
ثم تتساءل نقولا بالقول: “دائماً في السياسة هناك حربٌ نفسية، فمَن يقوم بهذه الحرب النفسيّة والدعاية السياسية؟!”. وتُجيب: “هم أناس يخرجون للتوهين على العدو أو قد يكون المجتمع مخترقاً من العملاء الذين يعملون لصالح العدو وينفّذون أهدافه ويكونون من الذين يُدفع لهم مالٌ. وهذا الشيء موجود اليوم”.
الأخبار الضخمة والتهويل مادة المحلل
وتتوقف نقولا عند مشكلة تُحاصر الوعي والمحلّل السياسي المثقف فتقول: “المشكلة التي نواجهها اليوم أن الفئة الأكاديمية، التي يعتمد أفرادها العلمَ، بعيدةٌ عن التأثير الجماهيريّ، لأنّ العلم لا يُثير الغرائز؛ فما يُثيرها دائماً هو تهييج الحساسيات والإشاعات والتهويل والأخبار الضخمة التي تستجلب تفاعل الناس دون الاستعانة بالنقد والمنطق”.
لكن ما يُحاصرُ المحلّلَ المثقّفَ هو ما يخشاه المُهيمن سياسياً الذي يسعى لإبطال النقد: “فكلّما دخل المجتمع في جهل سياسيّ أو اجتماعيّ أو علميّ….. وابتعد عن العلم والوعي الحقيقيّ بقضيّته وحقيقته ذهب إلى الغرائز وسهُلت قيادته. ومن هي أدوات السيطرة؟! إنّهم هؤلاء المثقفون الذين يدّعون صفة المحلّل السياسيّ”.
وتذهب نقولا في إشارةٍ لطيفةٍ إلى ربط ظاهرة التحليل بتكنولوجيا العصر حيث تقول: “إن وسائل الإعلام تريد جمهوراً أكبر بوساطة ما نسمّيه “الكليك”، والفئة المثقفة يضيع علمها وسط المثيرين الذين يريدون توجيه رسائل، أو الذين هم عملاء العدو وعناصر المخابرات. هؤلاء يوجدون بسبب وسائل التواصل”.
هذا بنظر أهل الاختصاص في علم السياسة، فكيف ينظر علم النفس إلى أقسام المحللّين؟
معاوية: بين الاضطراب العاطفي والسياسة تحليلٌ!
يرى مصطفى معاوية (استشاري ومعالج نفسي) في حديثٍ إلى “أحوال” أن المحلّلين السياسيين ينقسمون نفسيّاً إلى ثلاثة أقسام، وهم “المحلّل المنطقيّ والآخر العاطفيّ والثالث البين بين، الذي جمع في شخصيّته اضطراب العاطفة وثبات المنطق”.
ويشرح بالقول: “في المبدأ، على المحلّل أن يُفكّر بطريقة منطقية، وفق قواعد علميّة أكاديميّة عند النظر في المسألة السياسية، وأثناء إجرائه تحليلات لأوضاع وقضايا واستراتيجيات سياسيّة؛ فهنا لا مجال للعاطفة في تحديد الواقع، بغضّ النظر عن الهوى والانحياز العاطفي الشخصي. وعلى الرغم من كلّ الأهواء، يجب عزل العاطفة عن المجرى العام للتحليل وعن معطيات الواقع والوقائع والأسباب والمسبّبات. لكن ثمة أشخاص تكون طريقة تفكيرهم عاطفية فيعتمدون في تحليلاتهم كما في سائر أعمالهم على العاطفة والخبرات السابقة، وهنا التحليلات – إذا صحّ وصفها بالتحليلات – تأتي شخصيّة ذاتية غير موضوعية”.
ويأتي بين القسمين المشار إليهما – حسب معاوية – “قسمٌ ثالثٌ من المحلّلين هو “ما بين بين”، ويتميّز بالترنّح بين العاطفة والمنطق، فهو يخلط بين جانبي شخصيّته العاطفي والمنطقي، فتتباين تحليلاته السياسية، وتكون ردود أفعاله تجاه التغيّرات في السياسة سريعة، وربّما عنيفة”.
للأحزاب التخطيط وللجماهير الإثارة!
وينصح معاوية المهتمّين بعالم السياسة أن يكونوا موضوعيين: “فالأفضل أن يكون الشخص موضوعيّاً ذا بناءٍ أكاديميّ بعيداً عن العاطفة. ففي السياسة لا عاطفة، بل منطقٌ ومصالح، تتحرّك الأحزاب والقوى السياسية وَفقها، ووَفق قواعد سياسيّة واستراتيجيّات مرسومة بعناية، وإن عملت في استقطاب أعضائها ومناصريها وَفق أساليب عاطفية”.
عليه، يظهر لنا الدور الخطير الذي يضطلع به “المحلّل السياسيّ” في حياة المجتمع عامّة، والمجتمع السياسيّ خصوصاً، وتتأكّد الحاجة الماسّة إلى التفريق بين أشخاص يحملّون همّاً وطنيّاً وآخرين انساقوا وراء الأعداء يُرجفون ويكذبون ويثيرون…
طارق قبلان