على مشرحة العنف الأسري يُسجّى أطفال ونساء
أربع سنوات وأربع طعنات…أربع كلمات تختصر حكاية “لامار”. طفلة خسرت حياتَها على يدِ من يُفترض أنه أب، لكنّ واقع حياة لامار كان مغايراً..
“أنا أمّ أبلغ من العمر 23 عاماً، متزوّجة ولديّ طفلة تبلغ من العمر أربع سنوات. كلّ ذنبي أنني لم أرِد أن تعيش ابنتي في جوّ عائلي مضطرب. طَلبتُ الطّلاق من زوجي (في 12 كانون الأول من العام 2019)، الذي كنت أتعرّض للتّعنيف والضّرب على يديه، وغادرت منزل الزوجيّة. في ليلة 24 حزيران 2020 وقبل موعد جلسة المحكمة التي كانت مقرّرة في 27 منه، أخذ ابنتي مني ليشتري لها لعبة، وفي 25 حزيران أنهى حياتها. طعنها أربع مرات بسكّين في قلبها ورئتها، وتعرضت للتعنيف على يديه قبل موتها وهي تحاول الدّفاع عن نفسها”
هي قصّة الطفلة لامار كما روتها أمُّها الثّكلى أحلام ناصر لموقع “أحوال”. نذكرها لنضيء على أزمةِ العنف الأسري والعنف ضد المرأة، ونحن في رحاب الأيام الستة عشر للحملة العالمية لمناهضة العنف ضد النساء.
الأرقام تؤكد: القلق واجب
عندما نسمع أو نقرأ عن حالات التعنيف، ولا سيّما ضد المرأة قد نخال لبرهة أنها قد لا تصل إلى عدد أصابع اليدِ الواحدة أو أكثر بقليل. لكنّ الأرقامَ الرّسمية الصادرة عن قوى الأمن الداخلي تُظهر عكس ذلك.
فقد أظهرت آخر إحصاءات مديرية قوى الأمن الداخلي، أنّ “59% من الشكاوى الواردة إليها في حالات العنف الأسري تُرتكب من قبل الزّوج” “وتتولى الضّحية بنفسها التبليغ في 61% من الحالات، بينما يقوم الجيران بهذا الدّور في 14% منها” وتتوزّع الحالات المتبقّية بين الأشقاء، الوالدة، الأقرباء، الأصدقاء، الوالد، الإبنة، الإبن، الجمعيات، والزوج”.
زوجان ل”أحوال”: نسمع صراخ ولا نجرؤ على التّبليغ
وهنا التقت “أحوال” بالزّوجين لارا وكريم (إسمان مستعاران بناءً على طلبهما)، يذكران لموقعنا أنّهما يسمعان وبشكل شبه يوميّ شجار جاريهما الزّوجين “الذين لم يمرّ على زواجهما أكثر من سنة ونصف السنة ولديهما طفلة”. ويذكر لارا وكريم أن الشّجار يتخلّله في كثيرٍ من الأحيان صراخٌ من قبل المرأة (يشبه صراخ أحدٍ يتعرض للضرب والعنف في بعض الأوقات، كما يصفانه) وطلبٌ متكرّرٌ من قبلها للطّلاق. ورداً على سؤال حول تمنّعهما عن التبليغ عمّا يجري، يبديان تخوّهما من “الإجراءات الروتينية في المخافر والجرجرة التي قدر يتعرّضان لها أو من ردّة فعل الزوج في حال علِم بالأمر”.
ماذا يعني ارتفاع نسبة التبليغ؟
تحمل ظاهرة ارتفاع حالات التبليغ عن العنف وجهين، واحد إيجابي وآخر سلبي.
وفي هذا الإطار، تشير المديرة التنفيذية بالشراكة في منظمة “في- مايل” النّاشطة النّسوية حياة مرشاد لموقع “أحوال” إلى أن زيادة التبليغ تعني:
1- ارتفاعاً في نسب العنف (هذا العنف عكسه عدد التبليغات).
2- معرفةً ووعياً وتجاوباً أكثرعند النساء.
بين كورونا والعنف..من الأقسى؟
قد يكون وباء كورونا سبّب الأذى النفسيّ والاجتماعي للكثيرين، في ظلّ الحجر المنزلي وانعدام الحياة الاجتماعية. لكن، لنتخيل معاً سيناريو أسوأ… حجرٌ منزلي، ضائقةٌ اقتصادية، عنفٌ على اختلاف أشكاله تحت سقفٍ واحد. لا شكّ أن الصورة قاتمةٌ وموجعة.
تشير مرشاد إلى أنّ نسب العنف ضد النساء والفتيات ترتفع في أوقات الأزمات والكوارث والاوبئة والنّزاعات. ويلعب وجود النساء الدائم في المنزل مع شركائهنّ أو آبائهنّ أو اخوتِهنّ دوراً كبيراً في تأجيج حالات العنف. إذ قد يتّخذ المُعَنِّف الضغوطات النّفسية النّاتجة عن الأوضاع الاقتصادية المتردّية والحجر المنزلي مبرراً لممارسة عنفه. وتذكر مرشاد أن أكثر من 12 جريمةَ قتلٍ حصلت بحقّ نساء خلال فترة الحجر المنزلي، مشيرة إلى أغلب الضحايا كنّ يتعرّضن لعنف أسري.
قانون…رادع… حماية
ما يسري على كافّة مفاصل الحياة في لبنان يسري على نسائه. قوانينُ كثيرةٌ تتعلق بالأوضاع المعيشية والقانونية تنتظر التنفيذ فقط، ليُطَبّق عليها المثل القائل “لا معلّقة ولا مطلّقة”، ومن ضمنها تلك التي تُعنى بالنساء وحقوقهنّ. وفي الإطار، تشير مرشاد إلى أن هناك قانوناً يتعلّق بحماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري ينتَظر إقراره في الهيئة العامة لمجلس النواب بعدما مرّ عبر اللجان النيابية المشتركة مؤخراً. وعليه، فإنّ المشكلة ليست في وجود قانون فقط، إنما في تطبيقه وفي آليات توفير الحماية للنساء.
وبحسب مرشاد، فإنّ النّساء يُواجِهن “ذكوريّة” بالتعاطي من قبل بعض عناصر قوى الأمن وبأحكامٍ “ذكورية” وغيرِ منصفة من قبل قضاة. وتُرجع أسباب ذلك إلى المرجعيات الدّينية والحزبيّة التي تمنح الرّجل سلطةً مفرطة وتسمح لهم بعدم المثول أمام العدالة في حال تقدّمت المرأة بشكوى.
المنظمات… ملاذ آمن
قد يتعذّر على بعض المعنّفات اللّجوء إلى ملاذ آمن أو التبليغ عن حالات العنف التي يتعرّضن لها وذلك لغياب وسائل الاتصال أو لصعوبة خروجهنّ من منازلهنّ. ولكن بحسب مرشاد تبقى هذه الوسائل هي الأفضل لمن تستطيع، ولا سيّما مع وجود منظّمات كثيرة تقدّم لهنّ خدماتٍ اجتماعيةً أو نفسيةً أو قانونية مجّانية ومستعدّة لدعمهنّ ومؤازرتهنّ، بالإضافة الى وسيلة الاتصال على الخط الساخن 1745 لقوى الأمن الداخلي أو اللّجوء إلى أقرب مخفر.
من الواقع إلى الافتراضي.. العنف واحد
العنف المُمارس ضد الفتيات والنساء موجودٌ أيضاً في العالم الافتراضي، وهو يتّخذ أشكالاً مختلفة. وتشير مرشاد إلى أنه في أوائل الحجر المنزلي كشفت القوى الامنية عن زيادةٍ في العنف الألكتروني بنسبة 180%، أكثر من 90% منها هي تبليغات من نساء وأطفال، وأكثر من 40% تبليغاتٌ من فتيات بين سنّ 12 و22 عاماً.
وتعتبر مرشاد أن العنف الافتراضي هو امتداد للعنف الأسري ومن أبرز أسبابه العقليةُ الذّكورية التي تمنح الرّجل حقّ التعقّب والتحرّش والابتزاز من خلف الشاشة، بالإضافة إلى نسبة استخدام وسائل التواصل العالية خلال فترات الحجر المنزلي. وتلفت مرشاد إلى إقدام فتاتين على الانتحار في العام 2019 بسبب العنف والابتزاز الإلكتروني ونجاة فتاة ثالثة من محاولة انتحار.
السّلامة من العنف حقّ للجميع
إنطلقت في 25 تشرين الثاني (تستمر ل16 يوماً) حملة عالمية لمناهضة العنف ضد المرأة تحت عنوان “السّلامة من العنف حقّ للجميع”.
ومن هنا تشير مرشاد إلى أن المنظّمات النسوية وحقوق الإنسان في لبنان تسعى اليوم ومن خلال الحملة إلى الدّفع باتجاه تحقيق المطالب التي تشكّل أولوية بالنّسبة لها، كالحملات ضدّ العنف الأسري والمطالبة بقانون مدنيّ للأحوال الشّخصية، وحملة مناهضة تزويج القاصرات (زادت نسبتَه خلال جائحة كورونا نحو 13%). وتضيف، أن من أهم أدوار الحملة أيضاً الضّغط أكثر على مجلس النوّاب وعلى صنّاع السياسات لإقرار القوانين المطلوبة وأخذ إجراءاتٍ قانونية تحمي النساء من العنف المُمارس ضدّهن.
زيادة في نسبة الوعي لدى النساء
وتؤكد مرشاد أن الوعي والإدراك لحقوق النّساء زاد بنسبة كبيرة خلال السنوات العشر الأخيرة بفضل حملات التوعية هذه، وجعل قضايا النّساء مسموعة أكثر. وهنا تعطي مثالاً عن حملة “الشّاشة ما بتحمي” التي أطلقتها جمعية “في- مايل” عن العنف الإلكتروني والتي كان هدفَها الأساس تشجيعُ الفتيات على التبليغ وتوعيتهنّ (الجمعية تلقت اكثر من 60 رسالة من فتيات ونساء في أول شهر من إطلاق الحملة).
العنف ضد المرأة.. ندوبٌ لا تُمحى
لم يكن يَنتَظر المُعَنّف كورونا ليُفرغ جام ظلمه وعقده على ضحيّته، لكنّ الوباء أظهر هذا الجانب المظلم أكثر في حياة كثيرات، ما جعل المنظّمات الدّولية ترفع الصّوت عالياً محذّرة من تداعياته الخطيرة على حياة الكثير من النساء والفتيات.
ويتّخذ العنف أشكالاً وأنواعاً مختلفة، يبدأ بالجسديّ ولا ينتهي عند العنف اللّفظي والنفسيّ والمعنويّ. وبحسب ما تشرح الأخصائية في علم النفس والخبيرة المحلّفة لدى المحاكم الدكتورة ريتا عطالله لموقع “أحوال”، فإنّ العنف قد يؤدّي إلى أضطراباتٍ خطيرة لدى المُعنَّف قد تصل إلى حدّ العزلة والإدمان على المخدرات والكحول وفي بعض الأحيان إلى الاكتئاب والإنتحار وهنا تكمن الخطورة.
معظم المُعنِّفين تعرّضوا للعنف سابقاً
وتؤكّد عطالله أن 80% من المُعنِّفين هم أشخاص تعرّضوا سابقاً (ولا سيّما خلال فترة الطفولة) للعنف، ويعانون من اضطراباتٍ في الشخصية، الأمر الذي يؤدي إلى السّلوك العدواني والانفعالي تجاه الآخر، بحيث تُصبح المعادلة “مُعنَّف تشبّه بالمُعنِّف وتَحوّل إلى مُعنِّف في سن الرّشد”.
كما تؤكد أن لأزمة وباء كورونا والأزمات الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان وتداعياتها على الحياة العامة من بطالة وغيرها بالإضافة إلى انفجار المرفأ وفقدان الأمن، أمور ساهمت كلّها بزيادة الاضّطرابات النفسية والاجتماعية والسلوكية وبالتالي زيادة نسبة العنف المنزلي.
أسيرة حرب
تَعتبر “روث غلين” رئيسة التحالف الوطني ضد العنف المنزلي في الولايات المتحدة أن “ضحية العنف المنزلي تُعدّ بمثابة أسيرة حرب“، بحيث يعمل الشّريك على إخبارها مراراً وتكراراً أنّها شخص غير مهمّ وغير محبوب، ولا يمكنها الرّحيل وتركه أو العيش بمفردها، الأمر الذي يجعلها تنسى شخصيتها في السابق أو تلك التي تريد أن تكون عليها مستقبلاً. وتضيف غلين إنه في ظلّ غسل المخّ الذي قد تتعرض له الضّحية، قد تفقد ذاتها في خضمّ هذه العلاقة، وينصبّ تركيزها على التّضحية بالنّفس وتتوقف عن الاهتمام بنفسها”.
منال ابراهيم