ملف الاحتكار: أرباح كارتيل المحروقات الفاحشة لا تحصى
لا تمرّ السنة إلاّ ويتعرّض المواطن اللبناني للإبتزاز في أحد أهم القطاعات بالاستهلاك، قطاع المحروقات؛ حيث بالكاد ينسى الشعب اللبناني الطوابير على المحطات، لتعود الشركات المستوردة للمحروقات، مكرّرة نفس المشهد: إضرابات مشبوهة الهدف والتوقيت. مما دعا بالكثيرين إلى تسميتهم بـ “كارتيل المحروقات”، الذي يتمعّن بإذلال المواطن دون أي حلٍ جذري من الدولة.
يتشكّل كارتيل المحروقات من 14 شركة نفطية، تملك جميعها شركات توزيع، والبعض منها يملك محطات وقود؛ وهي تستورد المحروقات على أنواعها ما عدا الفيول الأحمر المحتكر من الدولة. ويصل عدد وسطاء النقل والتوزيع إلى نحو 40 شركة في الأوقات العادية، إلا أنّه في زمن “سلة الدعم للمواد الأساسية”، يتخطى عددها 210 شركة، وذلك كي تستفيد من أرباح هذا الدعم عبر الاحتكار والتخزين، وكل ذلك على حساب المواطن ولقمة عيشه، على اعتبار أنّ قطاع المحروقات يدخل في يوميات المواطن من الخبز إلى النقل إلى أغلب المواد الأساسية.
كارتيل المحروقات النموذج الأبرز للاحتكار
يعتبر الباحث الاقتصادي جاسم عجاقة في حديثٍ لـ “أحوال” أنَّ قطاع المحروقات يرزح تحت سيطرة بضعة شركات استيراد بغطاءٍ شبه رسمي في سوق حر، منصوص عليه في مُقدّمة الدستور اللبناني. ويشرح عجاقة آثار هذا الاحتكار على الاقتصاد اللبناني، حيث أنَّ المُتضرّر الأول هو المواطن اللبناني الذي يفقد من قدرته الشرائية لصالح ثُلة من المُستفدين، ما يعني تركيز الثروات على حساب الشعب اللبناني اللبناني، أو ما يُسمّى potential output. وبالتالي، فإنّ الإقتصاد اللبناني يخسر من نموه، عبر آلية سحب موارد من داخل الماكينة الإقتصادية لترقد في حسابات مصرفية.
ووصف عجاقة الشركات التي تستورد المشتقات النفطية ب “المافيا”؛ فهي تختبئ خلف جمعية تتفق على الأسعار بشكلٍ يُخالف كل المعايير الإقتصادية. وهي تضم شركات توتال، مدكو، هيبكو، يمين، عيسى بتروليوم، الشركة العربية، وردية، كورال، يونايتد، غاز الشرق، كوجيكو، وغيرها”. ويستذكر عجاقة دراسة أُعدّت لوزارة الإقتصاد تمّ فيها تقييم نسبة الاحتكار بنسبة ٩٠٪. وتأتي شركات هيبكو، ميدكو، يونيترمنلز، عيسى بتروليوم، يونايتد، ويمّين لتُسيّطر على ٥٠٪ من السوق. وإذا أضفنا شركتي توتال وموبيل، تحتل هذه الحصّة ٧٥٪ من السوق لتزيد عن ٩٠٪ إذا أضفنا شركتي ليفانت، والشركة العربية.
الدولة تشرّع الاحتكار
يحمّل عجاقة المسؤولية إلى السلطات المعنية، معتبراً أنَّ بوضع الدولة شرطاً أساسياً لإعطاء رخصة لأي شركة تُريد الدخول إلى قطاع المحروقات، فهي توفّر مرفأ يستقبل باخرة المحروقات، ما يسهّل عملية الاحتكار بشكلٍ غير مباشر؛ كون هذا الأمر متوافر فقط عند قلة قليلة جداً من المستثمرين المحتملين. لافتاً أنَّ هذه الشركات تستورد المحروقات في نفس الباخرة، ويتمّ تقاسم الكميات فيما بينها وفقًا لإتفاقاياتٍ مشبوهة.
أرباح المافيا لا تحصى
ويؤكد عجاقة أنَّ هذه المافيا تمتلك أو تُشغّل أكثر من ٨٠٪ من البيع بالتجزئة، وبالتالي لا يمكن معرفة أرباحها الحقيقية بدقة، نظراً إلى طبيعة عمل هذه الشركات إن من خلال طريقة فتح الإعتمادات التي تتمّ في نفس يوم وصول الباخرة، أو من كلفة الاستيراد.
وتُقدّر أرباح هذه الشركات في أسوأ تقدير الـ ٢٥٠ مليون دولار أميركي سنويًا وفق عجاقة، وهي تُحتسب على الشكل التالي:
قيمة الكلفة مُقدّرة بـ ٨٥٠ مليون دولار أميركي (منها ٢٥٠ مليون دولار أميركي للدولة على شكل رسوم وضرائب)، في حين أنَّ المداخيل تصل إلى ١.٢ مليار دولار أميركي، مما يعني أنَّ هناك فارق هائل يُناهز الـ ٤٠٠ مليون دولار أميركي سنويًا يتمّ تقاسمه بين الشركات وأصحاب النفوذ.
أمّا من جهة استيراد الفيول، فيري عجاقة أنَّ المشهد هو نفسه، فالاحتكار سيد الموقف؛ حيث أنَّ عقود الاستيراد بدأت في العام ٢٠٠٥ من الكويت والجزائر، وأنَّ الشركتان المحظوظتان اللتان تستوردان النفط هما سوناطراك والشركة الكويتية للنفط، وتُجدّد عقودهم كل ثلاثة سنوات. وعلى الرغم من محاولات عديدة لتعديل العقود نظرًا للعلاوات المُرتفعة، لم تلقَ تجاوبًا حتى العام ٢٠١٧ ، حيث تمّ تجديد العقود مع السماح بإجراء مناقصة على فارق الكمية الدنيا والكمية القصوى في العقود من دون حصول أي تطبيق.
صرخات مندّدة لم تظهر للعلن
بلغت قيمة تحويلات الخزينة العامة إلى مؤسسة كهرباء لبنان ما يوازي الـ ٢٣ مليار دولار أميركي في الفترة المُمتدّة بين العام ٢٠٠٠ وأواخر عام ٢٠١٩، من دون احتساب الفوائد المترتبة على هذه المبالغ. وأكدّت مصادر اقتصادية أنَّه في السنوات الماضية لطالما علت الصرخات منددةً بفساد هذه الشركات بعقودٍ سرية مع الدولة لم تظهر إلى العلن، ولكن لم يتبين إن كانت هذه الاتهامات صحيحة أو مفبركة لتغطية أمور أخرى. وفي هذا الصعيد، يقول عجاقة إنّه مُعظم الأوقات التي كان يجري فيها تقنين الكهرباء، كان يُرد السبب إلى الفيول المغشوش، والذي سببه استيراد الفيول بواسطة وسطاء لبنانيين محميين من قبل أصحاب النفوذ، وهذا الأمر يُمكن استنتاجه من خلال التسميات التي أُعطيت للفيول المُستورد: فئة أ وفئة ب.
ولفت عجاقة أنَّ المبالغ التي صُرفت، استفادت منها مافيا استيراد الفيول بشكلٍ كبير، وهي لم تظهر للعلن إلا مع فضيحة الفيول المغشوش الذي، ككل ملفٍ في لبنان تحوّل إلى صراع سياسي. وأضاف عجاقة أنّه بحسب الأرقام، يستورد لبنان ١٩٠٠ ألف طن من الفيول محصور بشركة واحدة هي سوناطراك، تُستورد من خلال وسطاء، مما يجعل الشركة تتحكّم بالأسعار، التي كانت لتكون أقلّ بـ ٢٥ دولار أميركي لو أنَّ هناك منافسة حقيقية متوافرة في سوق النفط اللبناني.
ضرر الاحتكار على الاقتصاد والدولة والمواطن
يرى عجاقة أنَّ أي دولة تسعى لتأمين حياة كريمة لمواطنيها تسعى لمحاربة الاحتكار، وهذا واضحٌ في جميع الأنظمة الاقتصادية عند الدول المتطورة؛ إلا في لبنان، نراه عاملاً أساسياً في التركيبة الاقتصادية للبلد، وهو أصبح يُضرّ بالمواطن والدوّلة والاقتصاد على حدٍ سواء، وهو ما يُقدّره عجاقة بعدّة مليارات الدولارات الأميركية سنوياً بصورة مباشرة، وتلك غير المباشرة التي يُصعب تحديدها بدقة، فهي تتمثل بغياب الفرص الاقتصادية المحفزة للنمو والازدهار، ويأمل عجاقة أن تُفرج الدولة عن قانون التنافسية وقانون المُشتريات العمومية قبل انهيارها التام.
كما في الدواء كذلك في المحروقات، الاحتكار مشرّعٌ من الدولة؛ الأمر الذي يخنق المواطن؛ بينما يحقق بضعة محتكرين أرباحاً فاحشة لا يمكن حتى إحصائها، إذ أنَّ أغلب الشركات تعتمد نموذج الدفترين للتهرّب من الضرائب. فإلى متى يبقى المواطن اللبناني حصّالة نقود لبعض أصحاب النفوذ والرأسماليين؟
محمد شمس الدين