حي التنك في بيروت: مجمع للبؤس يجهل وجوده الكثيرون
في منطقة وطى المصيطبة في بيروت، وعلى بعد أمتار قليلة من موقف “الكولا”، يقع حي لا يشبه غيره من الأحياء في بيروت. حي مازال الكثيرون يجهلون وجوده، سكانه عمّال مياومون، يعيشون في أكواخ مبنية من أحجار الخفان ومسقوفة بألواح من التنك. حي أزقته ترابية ضيقة بالكاد تتسع لشخصين، لم يلامسها الإسفلت يوماً، حيث لا فرق بين ساكن وأخر. فمشهد البؤس فرض نفسه على الجميع في حي كبر وتمدد عشوائياً، وأصبح يُعرف باسم حي التنك.
استغلال للنفوذ
القصة بدأت مع عائلة “عرمان”، وهي احدى عائلات منطقة وطى المصيطبة؛ انتقل أفرادها منذ زمن للسكن في منطقة أخرى، تاركين وراءهم بيوتهم وأملاكهم من دون رعاية أو إهتمام.
ويشرح مختار وطى المصيطبة رفعت الزهيري لـ “أحوال” كيف استغل بعض سكان منطقة “الوطى” المشهد، فقاموا بوضع يدهم على قطعة أرض كبيرة تعود ملكيتها للعائلة المذكورة. ويتابع، “مع ازدياد توافد العمالة السورية إلى لبنان في منتصف القرن الماضي، وجد شاغلو العقار الفرصة مناسبة للربح المادي، فقاموا بتأجيره للعمال السوريين لقاء بدل سكن، ومن دون وجه شرعي. “العقار الذي ظل سائباً لفترة طويله انتقلت ملكيته إلى أشخاص أخرين بعد أن باعه أصحابه؛ لكن محتلو الأرض رفضوا إخلاءها مستغلين نفوذهم في المنطقة”، بحسب الزهيري.
مجمّع للبؤس
مع مرور الوقت تكاثرت بيوت التنك، وتحوّلت إلى ما يشبه الحي، يسكنه أناس من جنسيات سورية وفلسطينية وسودانية ولبنانية. معظمهم عمال مياومون، ويبلغ عدد عائلاتهم حوالي ثلاث مائة عائلة. اللافت أنّ أهالي الحي لا يرحبون كثيراً بالزوار وخاصة الإعلاميين؛ لهذا النفور ما يبرره برأي “أم أحمد”، التي تسكن حي التنك منذ أربعين عاماً، فتقول لـ “أحوال”: مللنا من كثرة الوعود التي قطعونا عليها عن تحسين أوضاعنا المعيشية، والتي لم ينفذ منها شيئاً”.
بين إحدى روايات سكان المجمّع المؤلمة، يروي سعيد لـ “احوال” كيف انتقل من السويداء للعمل في بيروت وسكن في الحيّ عام 1962. يومها لم يكن عدد سكان الحي يتجاوز العشرة أشخاص، وكان بعضهم يسكن في خيم. ومع الوقت راح عدد الوافدين يتكاثر، حتى أصبح عددهم اليوم حوالي خمس مائة شخص يسكنون على مساحة 18 ألف متر مربع. يوضح سعيد “هنا تزوجت وهنا كبر أولادي وهنا بيتي، وليس لدي بيت غيره”، لافتاً إلى حالة الفقر التي أتت به إلى الحي.
معظم سكان الحي هم عمال في ورش البناء، لذا ترى أغلبيتهم يقضون وقتهم بلا عمل خلال فصل الشتاء، الأمر الذي يفاقم من معاناتهم الاقتصادية والاجتماعية؛ واليوم مع تدهور الوضع الإقتصادي، توقف العمل في معظم الورش وأصبحت البطالة شبه عامة بين سكان الحي.
أطفال حي التنك لهم نصيب أيضاً من هذا المشهد البائس، ويظهر ذلك جليّاً في ملامحهم. معظمهم ترك المدرسة باكراً وانتقل الى عالم المهن المتعبة والشاقة لمساعدة ذوويهم في تحصيل قوتهم.
صيف وشتاء فوق صفيح واحد
ليست الأوضاع الإقتصادية السبب الوحيد في معاناة سكان الحي، بل لأحوال الطقس أيضاً دورها في زيادة معاناتهم؛ فمع إشتداد هطول الأمطار تغرق البيوت في الماء، وتتحوّل إلى بحيرات حاملة معها الأتربة والحجارة إلى الداخل. مشهد تتحدث عنه “سمية” زوجة سعيد بكثير من الألم، وهي تروي لـ”أحوال” كيف طافت المياه في بيوتهم في شتاء العام الماضي، وكيف اضطرت هي وزوجها للمبيت خارج الحي عدة ليالي عند أحد الأقرباء بإنتظار توقف هطول الأمطارللعودة الى المنزل.
هذا في الشتاء، أمّا في الصيف فلسكان الحي حصتهم أيضاً من المعاناة. فارتفاع درجات الحرارة يصيب ألواح التنك باللهيب محوّلة البيوت إلى “أفران”، فيما استبدال ألواح التنك بسقوف من الباطون ممنوع ويعتبر مخالفة قانونية.
“جميل” الذي هاله أن يبقى أولاده فريسة دائمة للمرض بسب لوح من التنك، يتحكم بصحتهم في كل الفصول، كان نصيبه السجن عندما قام بصب سقف من الباطون لمنزله. الأمر أُعتبر مخالفة قانونية بحجة أنّ الأرض مازلت “مشاعاً”.
دورات مياه من تنك وروائح وأمراض
بيوت حي التنك لا تشبه غيرها من البيوت؛ فمساحتها من الداخل لا تتجاوز الأربعة أمتار مربعة، تم تشييدها بشكل غير منتظم، وعلى مساحات غير مخططة. أثاثها عبارة عن أريكة ومنضدة خشبية وتلفاز ومروحة، ولا يوجد فيها دورات مياه، التي تتوفر في الخارج بحيطان وأسقف من الصفيح.
“نحن نفقتد إلى أبسط مقومات العيش الكريم يقول غسان بحدة لـ”أحوال” ويتابع، “هنا لا شبكة للصرف الصحي. جور صحية فقط حفرها الأهالي بطريقة بدائية”. ما يقوله غسان رأيناه بالعين المجرّدة، من خلال المياه النتنة التي تتجمع على جوانب الأزقة، مختلطة بالقاذورات والنفايات، مسببة روائح كريهة مؤذية للصحة العامة. الأمر الذي يؤدي إلى تكاثر البرغش الذي يسبب لدغات مؤذية للأطفال خاصة في فصل الصيف.
“مياه الشفة والخدمة في حي التنك شحيحة وقليلة “، بحسب ما يروي غسان، موضحاً أنّه كان يتم ضخها إلى داخل الحي بطريقة غير شرعية من قسطل بالقرب من جسر الكولا بواسطة شفاط. هذه المخالفة ما لبث أن اكتشفها موظفو مصلحة مياه بيروت، ولكنهم قاموا بغض الطرف نظراً لعدم توفر البديل لسكان الحي. ولكن هذا الأمر لم يدم طويلاً، فالمخالفة تمت إزالتها فيما بعد بحجة أنها تؤثر على وصول المياه إلى البيوت في المناطق القريبة من حي التنك.
ويضيف غسان، “بعد ازالة المخالفة، قامت هيئة النجدة الشعبية بحفر بئر ارتوازي في المنطقة، لكن أحد الأشخاص قام بوضع يده عليه وأصبح يتحكّم بتوزيع المياه على سكان الحي لقاء بدل مادي”.
ولدى سؤالنا عن وضع الكهرباء، يجيب غسان: “قد تكون هي الشيئ الوحيد النظامي في هذا الحي، والذي يسير بشكل معقول”.
هذا من ناحية سكان الحي، أما من ناحية المناطق المجاورة فالمشهد مختلف. ويقول رفعت الزهيري: “بذلنا جهوداً كبيرة لإيصال الكهرباء لساكني حي التنك، وهذه أبسط الأمور التي يمكن أن نقدمها لهذه الشريحة الفقيرة والمنسية؛ ولكن بالرغم من ذلك فإن المخالفات من أهالي الحيّ لم تتوقف، مشيراً إلى التعليق على خطوط الكهرباء. الأمر الذي تسبّب في انفجار المحوّل الرئيسي أكثر من مرة، وإنقطاع الكهرباء عن المنطقة وعن حي التنك أيضا لعدة أيام. ويلفت الزهيري أنّ عملية سرقة الكهرباء لم تتوقف حتى اليوم.
الحق في الإستشفاء
ملف الصعوبات الحياتية في حي التنك كبير ومتشعب، وأحد فصوله أنّ سكان الحي محرومون من التغطية الصحية في المستشفيات الحكومية. مشهد تعترض عليه منى وهي لبنانية. فبرأيها أنّ زواجها من سوري يجب أن لا يكون عائقا في حصولها على التغطية الصحية هي وأولادها، خاصة أن زوجها يسكن في حي التنك منذ ولادته ولم يبارحه إلى أي مكان أخر.
الحق بالتعويض
اليوم وبعد ستين عاماً على وجوده، يبدو أنّ وجه حي التنك سيتغير، وذلك بعد قيام إحدى الشركات العقارية بشراء كامل العقار الذي يقوم عليه الحي، وذلك بغية إقامة مشاريع سكنية وتجارية. عملية الشراء لم تخلو من مشاكل، والسبب أنّ سكان الحي يرفضون الإخلاء قبل الحصول على التعويضات المناسبة، مبرّرين ذلك بعدم وجود مساكن بديلة يذهبون إليها.
عملية المطالبة بالتعويضات قوبلت بالرفض، بحسب المختار رفعت الزهيري من قبل الشركة العقارية. “فسكان حي التنك برأي الشركة العقارية هم محتّلون للعقار ويشغلونه بطريقة غير شرعية. وهي بادرت برفع دعاوى إخلاء بحقهم، بعد تسليمهم إنذرات بالإخلاء.
عملية المطالبة أحدثت ضجة واسعة، ولكن هذه الضجة ما لبثت أن هدأت منذ فترة. “فلا يبدو أنّ الشركة التي اشترت الأرض مستعجلة في الظروف الحالية، على إقامة مشاريع ضخمة تنفق فيها أموالا طائلة” بحسب الزهيري.
“لن نكون آسفين على مغادرتنا مجمع البؤس هذا”، يقول غسان: “بشرط أن تتوفّر لنا تعويضات تسمح لنا بالانتقال إلى بيوت تتضمن أدنى مقومات الكرامة الإنسانية”.
اعداد: نبيل المقدم
تصوير ومونتاج: غادة حاطوم
صوت : سامر كركي