العشائر العربية: بيضة القبّان الجديدة هل تُحدث انقلاباً في الموازين؟
بعد مرور نحو 26 عاماً على حصول عشرات آلاف من أبناء العشائر العربية على الجنسية اللّبنانية في العام 1994 التي هي حقهم الطبيعي بمسعى من رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري لأهداف انتخابية، بات العرَبْ، كما يُحبّون تسميتهم، يعُدّون أكثر من نصف مليون مواطن. عدد الولادات المرتفع لدى العشائر العربية قلَبَ التوازن الطائفي ديموغرافياً في قرى البقاع والشمال، حتى صار هؤلاء بيضة قبّان تُرجّح كفة الجهة التي تؤيدها انتخابياً!
وصل رجلٌ يرتدي عباءة عربية بنية اللّون ويعتمر حطّة حمراء مثبّتة بعقالٍ أسود إلى رأسه إلى الجلسة النيابية الأولى التي انعقدت بعد صدور نتائج الانتخابات الأخيرة. خاله حرس مجلس النواب للوهلة الأولى أحد سفراء دول الخليج العربي. طلبوا منه الصعود إلى حيث يجلس السفراء، ففاجأهم بردّه: «أنا نائب عن العشائر العربية في المجلس النيابي ولست سفيراً». هذا الرجل كان النائب محمد سليمان (أبو عبدالله) الذي وصل بأصوات أبناء العشائر العربية ليكون ممثلاً عنهم في مجلس نواب الأمة.
من التجوال ورعي الأغنام الذي يفتخر به أبناء العشائر إلى مقاعد التشريع في مجلس النواب اللّبناني، تُروى قصة العشائر العربية في لبنان التي تنتشر في كل محافظات لبنان. كيفية تجنيسهم لغايات انتخابية، رغم أنّ اكتسابهم الجنسية اللّبنانية حق طبيعي لهم بسبب وجودهم في لبنان منذ مئات السنين، ثم انقلابهم لاحقاً على من جنّسهم ومطالبتهم بالوصول إلى السلطة في لبنان، في ظل تزايد أعدادهم بشكل كبير وسيطرتهم على معظم المجالس البلدية والاختيارية في القرى التي يتواجدون فيها. هذا المكوّن اللّبناني الذي دخل في التسعينيات إلى النسيج اللّبناني، في ظل عدد الولادات المتزايد لديه، سيتمكن خلال السنوات المقبلة من حصد عدد كبير من المقاعد النيابية في المستقبل القريب. فمن هم هؤلاء القوم ، من أين أتوا؟ وما هو دورهم ورؤيتهم؟
لقد ارتبط اسم العشائر العربية ببلدان الخليج العربي. هذا أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند تداول هذا المصطلح، إلّا أنّ ما يغيب عن بال كثيرين أنّ لهذه العشائر انتشاراً واسعاً وجذوراً تاريخية في بلاد الأرز ترجع إلى عهد الفتوحات الإسلامية وأيام حكم العثمانيين منذ مئات السنين. فقد قدِمت العشائر من البلدان العربية المختلفة إلى لبنان، حيث أنشأوا لمجتمعهم قرى مصغّرة خاصة بهم بعدما شيّدوا منازلهم من الخيم وبيوت الشعر، والتي باتت تُعرّف عن هويتهم الاجتماعية. ورغم استقرار العشائر في لبنان، إلّا أنّ خصوصيتها لا تزال تفرض عادات وتقاليد تدلّ على هويّتها، لعلّ أبرزها النظام القضائي المتكامل الذي يتألف من لجان إصلاح ذات البين وكبير العشيرة الذي يحوز صفة القاضي.
أمّا الرابط بين أبناء العشائر الذي يجمعها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب والبقاع والجبل والساحل والعاصمة هو اللّهجة التي يتمسّك بها كلُّ بدوي ويتكلّم بها مع أبناء جلدته في سعيٍ راسخ للتمسّك بالهوية التي تجمعهم، علماً أنّ نقطة التحوّل التي شهدها مجتمع العشائر العربية لكلّ من وُلِدَ وعاش على أرض لبنان، مع العلم أنّ مرسوم التجنيس لم يطل كلّ فئات مجتمع العشائر لسببين بحسب وجهاء هذه العشائر. الأوّل النقص في الوعي والثاني يتمثّل بالإهمال الناتج عن عدم تصديق الفاعلين فيه لهذه المنحة بسبب كثرة الوعود التي لم تكن تتحقق. وقد نتج عن ذلك بقاء أعداد كبيرة من البُدوان بلا جنسية.
لقد تسبّب منح أبناء العشائر الجنسية اللّبنانية بارتفاع أصوات المعترضين الذين اتّهموا الحريري الأب باستغلالهم لكونهم يُمثّون الثقل الأكبر للأصوات السنية. بل حتّى أنّ قسماً من المعترضين ذهبوا بعيداً في اتهام الحريري بالسعي لزيادة الهوّة الديموغرافية بين المسلمين والمسيحيين، مع العلم أنّ حصول العرب على الجنسية كان حافزاً لعدد من أبنائهم للاندماج تربوياً في المجتمع اللّبناني، رغم أنّ نسبة المتعلّمين في مجتمع البدوان لم تتكن تتجاوز الـ 5%. إذ إنّ مجتمع العشائر كان، ولا يزال في بعض المناطق، يفتقر لأبسط مقوّمات الحياة. إذ لا وجود للبنى التحتية حيث يتواجد عدد كبير منهم. كلا لا توجد مدارس خاصة أو رسمية، إلّا ما ندر. عدا عن غياب المستوصفات وانعدام الاستشفاء لأبناء العشائر. غياب أساسيات العيش هذه وقف سدّاً منيعاً أمام جعل التعليم أولوية في صفوف العشائر في مراحلهم الأولى. لا سيما أنّ أبناء العرب يُشكّلون مجتمعاً عاملاً بأجرة يومية ليحيا أبناؤها بقوت يومهم فقط. غير أنّ حصولهم على الجنسية ساعد شباب العشائر في الوصول إلى مراحل التعليم العليا ما أدخلهم المعترك السياسي.
وفي هذا السياق، يؤكد المختار رفعت النمر، وهو أحد أبناء عشيرة الحرّوك في لبنان، لموقع أحوال أنّه “بعد حصول العشائر العربية في لبنان على الجنسية بموجب مرسوم التجنيس الصادر عام 1994، كان أبناء العشائر يُفتّشون عن فرصة لإثبات وجودهم على المستوى السياسي في البلد”، معتبراً أنّ “الانتخابات النيابية عززت هذا الدور إثر ترشّح أحد أبناء العشائر محمد سليمان ليحصد مقعداً في البرلمان في الانتخابات النيابية الأخيرة”. قبله كان النائب السابق جمال اسماعيل والنائب السابق محمد يحي. كذلك أثبتت العشائر وجودها في المناطق من خلال ترشيح أشخاص للمجالس البلدية والاختيارية. كما طالبوا باستحداث بلديات لمناطقهم التي تستوفي الشروط، فكانت بلدية شهابية الفاعور التي فاز أعضاؤها بالتزكية. وبحسب عدد من وجهاء العشائر، “لا يزال أبناؤهم إلى اليوم يسعون إلى تحسين مواقعهم ومراكزهم في الكثير من الإدارات، معتبرين أنّ هناك “الكثير من الكفاءات الفكرية والسياسية المؤهلة لتولي أي منصب”. ويستشهد هؤلاء بالتجارب ليقولوا إنّ “من تولوّوا مسؤوليات نجحوا في إدارة ملفاتهم ولا نزال ننتظر الفرص لتحقيق المزيد على مساحة الوطن وفي أعلى المراكز والمراتب”.
هذا على المستوى الاجتماعي. أما على الصعيد السياسي، فيتحدث هؤلاء عن مؤامرة تحاك ضدهم لمنعهم من التوحّد. إذ يرون أنّ انخراط أبناء العشائر العربية في الأحزاب اللّبنانية بعث القلق في صفوف قياداتها خشية مبادرة الفاعلين إلى توحيد طاقاتها وأصواتها ضمن مجموعة كبرى قد تصب بيضة القبّان ورافعة حزبٍ على حساب آخر. انطلاقاً من ذلك، برز التأثير الكبير للعشائر العربية في مسار الانتخابات النيابية في لبنان بسبب ارتفاع أعداد الناخبين ونسب الإقبال على الاقتراع التي تصل إلى 95%، مما يجعل الكفّة التي يصبّون فيها الراجحة في أي استحقاق نيابي.
وفي هذا السياق، يؤكد الشيخ جاسم العسكر رئيس اتحاد العشائر العربية في لبنان لـ “أحوال” أنّه رغم وجود العشائر قبل بناء لبنان الكبير، إلّا أنّه جرى تهميشها أكثر من نصف قرن بسبب التوازن الطائفي، محاولة بعض القوى السياسية التعمية عليها في الإعلام لعدم إبراز ثقلهم الانتخابي.
ويقول العسكر الذي يفاخر بانتسابه لعشيرة عنزي، العشيرة نفسها التي يتحدّر منها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إنه “بعد مرور عشر سنوات من دخول اتحاد أبناء العشائر العربية في لبنان للعمل على توحيد الصف عند العشائر، بدأت بعض القوى السياسية العمل لخلق مكوّنات جديدة وتسميات عديدة لشقّ وحدة الصف على القاعدة الشهيرة “فرّق تسُد”، للإبقاء على تهميش نصف مليون إنسان.
ويعتبر رئيس اتحاد العشائر العربية أنّه “على الرغم من أنّ معظم العشائر تؤمن بدولة المؤسسات والعيش المشترك ومنهاج الاعتدال، إلّا أنّنا خارج المحاصصة بسبب حرمان أبنائنا من الوظائف في مؤسسات الدولة”. ويرى العسكر أنّ التهميش لم يعد يُجدي نفعاً بسبب تزايد أبناء العشائر والتحوّل بعد ثورة 17 تشرين.
محسن شعبان