“إحباط” سنيّ ورهان على الإقليم… لا على الحريري
منذ سنوات والطائفة السنية في لبنان ليست في أفضل أحوالها. الأمر لا يقتصر على جانبه المحليّ، هو مزيج من عوامل داخلية وخارجية جعلت من الطائفة في حالة من تيه حسب وصف البعض، وهو شعور تزامن مع اشتعال أوار المعارك المذهبية في الاقليم وانتهائها إلى غير ما تشتهيه شرائح سنية في البلاد، وصولًا إلى ما تعيشه المنطقة ولبنان ضمنها، مع إعادة رسم الخرائط السياسية بعد فشل الخرائط الجغرافية التي حُضّرت لها.
في الماضي، اعتقد كثيرون أنّ عودة زعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة ستُحدث خرقًا في مرحلة إحباط سنية ممتدة في شكل نسبي منذ اغتيال والده رفيق الحريري، في حنين إلى زمن الحريري الأب.
والواقع أنّ عوامل ذاتية وأخرى خارجية تراكمت لتؤدي إلى إخفاق العودة الحريرية التي حاولت في البدء نوعًا ما اختزال واقع الطائفة على غرار الطوائف الكبرى الأخرى، قبل أن تشرع في الانفتاح على الشركاء في الطائفة وصياغة تفاهمات مع الأخصام وأهمّهم “حزب الله”، لكن الأكثر دلالة في تلك التفاهمات تمثّل في التفاهم الرئاسي مع زعيم “التيار الوطني الحر” ميشال عون الذي حلّ رئيسًا للجمهورية في ما عرف بالتسوية الرئاسية التي جمعته مع سعد الحريري رئيسًا للحكومة.
بعد تعثر التجربة، أعاد المزايدون على الزعيم المستقبلي انتقاداتهم السابقة لكونه اندفع برأيهم إلى تسوية داخلية ليست في مصلحته أو في مصلحة الطائفة، وقد كان في إمكانه الصمود قدر الإمكان في محاولة التوصل إلى سلة تفاهمات أكثر إفادة للطائفة والتخلي عن إيصال من لا يرضى عنه نبض الشارع السني إلى الرئاسة.
والحال أنّ حراك 17 تشرين لقي استجابة لدى سنة لبنان وخاصة في الشمال وعاصمته، وكان في ذلك رسالة للحريري تعكس ذلك الواقع السني المأزوم والمرتبط بالتطورات الإقليمية، كما تشير قراءة مستقلّة من واقع الطائفة، وذلك لكون السنة محسوبين على محور دون الآخر، وهي فكرة يأسف لها كثيرون مع تحوّل السنّة لمواجهين لمشروع شيعي مقاوم مع أنّهم كانوا المطلقين للمقاومة منذ عقود في المنطقة.
كان من شأن إخفاقات المحور المحسوب على السنة وانتصارات المحور المحسوب على الشيعة ان تركت آثارها في الوجدان السني الذي بات في حالة معنوية صعبة وصلت إلى درجة اللّامبالاة.
ومع احباطات الإقليم وخفوت 17 تشرين لصالح تعويم النظام الذي استفاد أيضًا من فقدان اللّبنانيين للبديل عنه،
لم يعد أبناء الطائفة يسألون عن هوية الزعيم ومن سيكون على رأس الحكومة اللّبنانية أو حتى عن الانتخابات النيابية.
صحيح أنّ 17 تشرين حملت نقمة عارمة على الطبقة السياسية شاملة الطوائف كلّها، بدا مأزق السنة مضاعفًا مع ما يعتبرون أنّه فقدان للحكم حتى باتوا من دون أب!
والحال أن قلب أبناء الطائفة على وجه العموم ما يزال مع الحريري نتيجة تراكمات السنوات الطويلة الماضية واصطفاف من يمكن أن يشكل رديفًا للحريري وراء زعامته. لكنّ رئيس “تيار المستقبل” أظهر، حسب هذه القراءة، نقصًا في الخبرة واخفاقات على المستويين الإقليمي والمحلّي، وبات سجين رفض، إن لم يكن نقمة، سعودية بات معها عاريًا حتى من الظهير الإقليمي الذي شكّل السند الدائم للحريري في مراحلها المختلفة.
وبرغم هذا الوضع الصعب، تستمر مرجعية الحريري الذي أفاد من التكتلات الطائفية الأخرى كما من الواقع المعيشي المزري ليستعيد شيئًا مما فقده على الأرض وليقارع من خرج عليه من رحم تياره ليزايد مذهبيًا ويستقطب بدوره دعمًا خارجيًا.
على أنّه بهذا الجو من الكآبة تقارب شرائح سنيّة واسعة الواقع الذي تنفس بعض الصعداء من “الإشراقات” التي أنجزها الفلسطينيون في الأراضي المحتلّة ليستعيد السنة في الإقليم وهج مقاومتهم ولو إلى حين، ولسان حالهم “أنّنا نستطيع الانتصار في مقاومتنا كما فعل الشيعة” ولو بعلمهم بالدعم الإيراني لهذا “النصر”.
لكنّ حالة الإحباط هذه لن ترى خاتمة مع افتقاد السنّة للمرجعية الخارجية الكبرى. ففي الماضي، إتّكأ هؤلاء على مصر في ظلّ زعامة جمال عبد الناصر، من دون أن يعني هذا انقيادهم إلى مشروع مذهبي كان الأخير بعيدًا منه كلّ البعد. ثم تماهوا في المشروع الفلسطيني في لبنان وانغمسوا في تورّطه الداخلي الحالم، وذهب بعضهم نحو بغداد قبل سقوطها.
اليوم، لا مرجعية عربية تقارب تلك الحلام. ثمّة تموضعات طارئة بعد التغيّر الكبير في الإدارة الأميركية، أساسه فك الاشتباك السعودي الإيراني، وانفتاح الرياض على دمشق. ووسط ذلك تحضر مصر، الدولة العربية الكبرى، مُفعلة دورها ولو طغى عليه الجانب المعنوي وهو شبيه بدور القاهرة قبل سنوات في دعم المرجعيتين، الدينية الممثلة في دار الإفتاء، والسياسية عبر الحريرية.
يأمل أبناء الطائفة عودة الاهتمام بهم في إطار تلك المرجعية واخراجهم من الشعور بـ”التخلي” نحو مشروع إقليمي حاضن لهم ولمؤسساتهم.
البناء على “النصر” الفلسطيني
وفي موازاة ذلك ثمّة اتصالات تبني على “الانتصار” الفلسطيني لتعزيز التقارب مع “المحور الشيعي المقاوم” و”حزب الله” في صلبه وهو ما يُعمل عليه أخيرًا عبر لقاءات حوارية غير رسمية يشترك الإيرانيون في بعضها، لبحث، تحت عنوان المقاومة، الملفات الخلافية حول سوريا واليمن والعراق، كما لدرء أيّة فتنة محتملة قد تعمل عليها تيارات تكفيرية ما زالت تنام في الخفاء متحيّنة الفرصة للانقضاض.
عمار نعمة