في قانون “العَيْبْ”، يصدّقون المعتدي ولو كذب!
صبرٌ جميلٌ، بعدَ اعتداءٍ أليمٍ. ندوبٌ روحيّةٌ، وصْماتٌ نفسيّةٌ، وأحيانًا تشوّهاتٌ جسديّةٌ، تَظهرُ على المرأة بعد أن تُحاصرَها غريزةُ رجُلٍ ضارٍ، ضلَّت طريقها في غابتِه المَوبوءة بالمعتقدات السّامّة، والمشحونةِ بالذكوريّة المتوارثة.
في لبنان، تعيش معظم النّساء “اللّا-أمان”. يصطدمنَ بحاجز “العَيْبْ” كلّما حاولْنَ البَوْح بتجاربهنّ مع الاعتداء الجنسيّ. فتُسكِتُهُنّ كفوفُ الأمّهات وتخنقُهنّ أيادي الآباء كي يغسِلوا “العارَ” بدمائهنّ.
لا يصدّقون الضّحيّة!! يؤمنون بقدسيّة الذكوريّة، فيصدّقون المعتدي ولو كذب! يرتهنون المرأة ويضحّون باحترامها. يتخطّون كلّ القوانين، فتبقى هيَ، دونَ حيلةٍ في جسدها ولا قوّةٍ في نفسها.
نيسان، شهر الوعي بالاعتداء الجنسي:
بدأت القصّة، عام 1976، عندما انطلقت مسيراتٌ في أمريكا، عُرفت ب “Take Back The Night” حيث احتجّت هذه المسيرات على العنف والخوف الّلذيْن تواجههما السّيّدات أثناء سيرهنّ في الشوارع ليلًا. وبمرور الوقت، تحوّلت هذه الفعاليّات إلى حركةٍ انتشرت في جميع أنحاء الولايات المتّحدة وأوروبا. وبفضل هذ الحركة، بدأ ظهور أنشطةٍ أوسع نطاقًا، وتهدف إلى رفع الوعي بالعنف والاعتداء الجنسي الذي تواجهه المرأة، حتّى قرّرت أخيرًا الجمعيّات المهتمّة بمناهضة الاعتداء الجنسيّ، عام 2001، تخصيص شهر نيسان للتوعية على الاعتداء الجنسيّ.
هذه الخطوة البسيطة التي بدات بالمسيرات في شوارع أمريكا، أوصلت الوعي المجتمعيّ بقضايا الاعتداء الجنسيّ إلى ساحات مواقع التواصل الاجتماعيّ، ومهّدت الطريق أمام كثيراتٍ وشحنتهنّ بالجرأة ليدافعن عن أنفسهنّ ولا يسكتن عن هدر حقوقهنّ.
في نيسان 2021، نجد تحرّكًا جخولصا للجمعيّات ومؤسسات المجتمع المدنيّ في لبنان في التوعية على هذا الأمر، كما أنّ التوعية الإعلاميّة في العالم العربيّ عامّةً لم تكن كافيةً.
الاعتداء الجنسي على النساء في لبنان:
تتنوّع أشكال الاعتداء الجنسيّ على النساء بين تحرّشٍ لفظيٍّ وجسديٍّ واغتصابٍ واستغلالٍ جنسيٍّ، وغيرها من التصرفات غير الأخلاقية التي تتعارض مع حقوق الإنسان العالمية، والقيم الإنسانيّة السّامية، وبعض القوانين.
نشر موقع World Population Review إحصائية تشير إلى أن حوالي 35% من النساء حول العالم عانين من بعض أشكال التحرش الجنسي، وفقط 40% منهنّ يطلبن المساعدة، وأقلّ من 10% منهنّ يلجأن إلى القانون لحمايتهنّ.
في لبنان، وبحسب إحصائيات المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، سُجّلت 229 حالة إعتداءٍ جنسيٍّ بين كانون الثاني 2016 وآب 2017. فكان هذا العدد صادمًا للحقوقيّين والمهتمّين بالملفّ، وأشاروا وقتها إلى أن هذا العدد الكبير من التبليغات، يعود سببه إلى ارتفاعٍ ملحوظٍ في نسب الوعي على الاعتداء الجنسيّ بين النساء و تجرّؤهنّ على الخروج من الدوّامة المغلقة التي ابتعلت أصواتهنّ المحقّة لسنوات.
أمّا في 2020، في بداية أزمة فيروس كورونا، وتحديدًا خلال مرحلة تنفيذ قرار التعبئة العامة، إزدادت شكاوى جرائم الابتزاز والتحرش الجنسيّ مقارنةً بالفترة ما قبل هذه المرحلة، بحيث تبلّغت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ب 122 شكوى بين الفترة الممتدة من 21 شباط لغاية 21 نيسان، بعد أن كانت 43 شكوى بين الفترة الممتدة من 20 كانون الثاني 2019 لغاية 20 شباط 2020. وبالتالي فإنّ هذه الجرائم قد ارتفعت بنسبة بلغت 184%، وهذا مؤشّرٌ وافٍ عن تراتب التأثيرات النفسية السلبية التي يعيشها المواطنون، والتي تنعكس سلبًا، بالدرجة الأولى، على المرأة و سلامتها، وأمنها وكرامتها.
كما أنّ 2020 و 2021 شهدتا على قضايا استغلالٍ وابتزازٍ جنسيّين عبر الانترنت، فَكَثثر المبتزّون الجنسيّون على المنصات السهلة، التي تؤمّن ال
حماية النساء في لبنان من الاعتداء الجنسي:
قضايا الاعتداء الجنسي تراكمت مع تعاظم الأزمات في لبنان، فأصبحت الفتيات “كبش محرقة” وعرضةً للخطر في أيّ زمانٍ ومكانٍ.
تأثّرت الجهات الأمنية المعنيّة، فكثّفت حملاتها التوعويّة عبرمؤتمراتٍ منظّمةٍ الكترونيًّا، وموجَّهة للمواطنين عامّةً ولطّلاب الجامعات خاصّةً، وذلك للتنبيه على مخاطر المنصّات الرقميّة التي تضعهم في دائرةٍ ممتلئةٍ بالتحديات و الظواهر الجديدة، فتغلقُ أمامهم أبواب التهّرب من المخاطر والمشكلات الالكترونيّة، لتبقى الحصانةُ لأنفسهم.
إلى جانب الجهات الأمنيّة، عملت بعض الجمعيّات الدّولية والمحلّيّة، على المساهمة في التوعية على سبل الحماية من الاعتداء الجنسيّ، كما أمّنت بعض الجمعيّات خطًّا ساخنًا لتأمين حمايةٍ أكبر للنّساء.
وفي خطوةٍ ملحوظةٍ، أقرّالبرلمان اللبنانيّ، في 21 كانون الثاني 2020، قانونًا ينصّ على معاقبة التحرش الجنسيّ، وخصوصًا في مكان العمل. وكان هذا القانون الأوّل من نوعه
لكن بالرّغم من الإيجابيّات التي يحملها هذا القانون، إلّا أنّه هناك سلبيّات تقابله، ومنها عدم تشديد تطبيق بنوده، وعدم ضمانة تحقيقه لصالح الضّحيّة في بلدٍ تسوده المحسوبيّات والوساطات والعقليّات التقليديّة.
إذًا قضيّة الاعتداء الجنسيّ في لبنان، ليست مرهونةً بقوانين فقط، بل هي في جوهرها أسيرة العادات والتقاليد الظّالمة.
قانون “العَيْبْ”:
مُعضِلَتُنا الحقيقيّة في لبنان، هي التّربية الفاسِدة والمُفسِدَة. فاسدةٌ لأنّها متوارثَةٌ منذ أجيالٍ قديمةٍ تمجّد سيادة النّظام الأبويّ الظّالم في معظم العائلات، وتعطي الرّجل الأفضليّة على الفتاة، فيحكم عليها تحت غطاء قانون “العَيْبْ”. وهي تربيةٌ مُفسِدةٌ، لأنّها تنقلُ أساليبًا غير علميّةٍ وغير منطقيّةٍ للتربية المرتكزة على التمييز الجنسيّ.
نمط التربية التقليديّ الظّالم، جعل بعض الذّكور يتمادون بالإساءة للفتيات القريبات والغريبات، فيعتقد هؤلاء أنّهم فراعِنةُ عوالمهم الخاصّة، بينما هم في الحقيقةِ “نيئة عن الخليقة!”.
“العَيْبْ” هو القانون الّذي ترتبط به ردّات الفعل في نظام الحكم الأبويّ الظّالم، وهو القانون نفسه الذّي خبّأت الفتيات بين احرفه الثّلاث، أحرفًا لانهائيّةً تقصّ أحداثًا أليمةً حطّمت كيانها وقلّلت من عزيمتها. فأصبح شعارُها عندَ الضّعف:”صبرٌ جميلٌ بعدَ اعتداءٍ أليمٍ!”.
لكنّ تحرّر المرأة التّدريجيّ من العُقَدِ التّبعيّة يمنحُها مساحةً اوسع من الحرّيّة. وكما قالت الرّاحلة نوال السعداوي:”إنّ الشخصيّة النّاضجة هي وحدها الني تستطيع ان ترغب الحرّيّة وتسعى إليها دون ان تخشاها”. لكن هل النّضج والحرّيّة وحدهما كافيان للتخلّص من قانون “العَيْبْ” وتحقيق التربية السليمة؟
فاطمة ماجد شرف الدين