التلوّث النفطي جنوبًا.. مسحٌ شامل وتقرير علمي يصدر اليوم
برنامج مراقبة مع منظمات وجامعات عالمية.. ولا خطر على الثروة السمكية
لا تعرف البيئة حدودًا، ولا تُقيم اعتبارًا لجغرافيا سياسية، ماءً وتربةً وهواء. النسائم الطيّبة النظيفة تعمّ وتنتشر دون جواز سفر، وكذلك التلوّث يمتدّ بعيدًا من تخوم دولة أو منطقة؛ وللبيئة منطقها الخاص، تصدمنا لتُعيدنا إلى جذورنا الإنسانية، كي لا ندمِّر الحياة ونشوّه معالمها، وكي لا تقصينا عن نعمة الجمال وقيم الحياة المثلى.
ولعلّ كارثة التلوّث التي طاولت ساحل فلسطين المحتلة وامتدّت إلى لبنان، من الناقورة إلى مدينة صور، بعثت برسالة إلى الدول المتوسطية كي تتدارك الأسوأ في المستقبل، خصوصًا أن التلوّث النفطي تخطّى المناطق الجنوبية ووصل إلى شاطئ الرملة البيضاء في مدينة بيروت، وربما أبعد، وهذا ما سيظهره تقرير “المركز الوطني لعلوم البحار”، التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية، بعد إجراء مسح للتلوّث وأخذ عيّنات ودراستها، والذي وصل اليوم إلى مجلس الوزراء ومن المتوقّع أن يصدر رسميًا اليوم الثلاثاء.
عدوان ليس الأول من نوعه
ليست المرة الأولى التي يتسبّب فيها العدو الإسرائيلي بتلوّث نفطي في المياه الإقليمية اللبنانية، فأثناء عدوان تموز 2006 وبعد استهداف خزانات “محطّة الجية للطاقة الحرارية” من قبل الطائرات الإسرائيلية، تسرّب ما بين 12 و15 ألف طن من زيت الوقود الثقيل إلى البحر، وقد تبنّت “الجمعية العامة للأمم المتحدة” إثر هذا العدوان، بتاريخ 19 كانون الأول/ديسمبر 2014 وبأكثرية 170 صوتًا من أصل 179، قرارًا حمل الرقم 69/212 يقضي بدفع إسرائيل تعويضات مالية قُدّرت بـ856 مليون دولار أميركي عن الأضرار التي لحقت بلبنان جرّاء هذا القصف، وفقًا لتقرير علمي شامل وتقديرات تعويضية أعدتها منظمات أممية ودولية، بما فيها البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الأغذية والزراعة والاتحاد الدولي للحفاظ على البيئة.
محمية شاطئ صور الطبيعية
وفي هذا الخصوص، قالت مديرة محمية شاطئ صور الطبيعية، د. ناهد مسيلب لـ “أحوال”: “اعتمادًا على التقرير الأولي لمجلس البحوث العلمية ومنظمة IUCN، لا نصدّق مزاعم العدو الإسرائيلي بأن السبب هو باخرة تحمل النفط، ولا نتبنّى هذه الرواية لوجود شكوك بأن ثمّة أمر مبهم في هذا المجال”، مضيفة أنه من المرجّح ألا يكون مصدر التسرّب النفطي باخرة فحسب، “كما نحمّل العدو الإسرائيلي المسؤولية كاملة، كون التسرّب وتلوّث البحر والشواطئ بدأ من الشواطئ المحتلة منذ 10 شباط/فبراير، ولم يقم العدو بالتدخل واحتواء البقعة النفطية حتى وصلت إلى شواطئنا”.
وانطلاقًا من ذلك، لفتت مسيلب إلى أن العمل في نطاق المحمية قد يتطلّب ما بين 10 و15 يومًا لرفع التلوّث بطريقة علمية منظّمة، فضلًا عمّا لا يقل عن 20 يومًا إضافيًا على الشواطئ الأخرى شمال المحمية، مؤكدة أن الفرق ستبدأ بالعمل اليوم، ومنها فريق من 50 عاملًا مدفوعي الأجر، للعمل على إزالة المخلّفات النفطية، خصوصًا أن هناك جهات مانحة بادرت للمساعدة في هذا الأمر، أبرزها منظمة (CIMIC – UNIFIL) الإيطالية التي قدّمت منحة للمحمية، وهي عبارة عن أكياس خاصة لجمع المخلفات النفطية وكمامات وقفازات وملابس واقية للمباشرة بالعمل.
وفي سياق متّصل، أشارت مسيلب إلى أنه وفقًا لمجلس البحوث العلمية، فالمادة هي نوع من الزفت Tar، وقد تمّ عمل مسح جوي باستخدام الـDrone من قبل CNRS، يوم 25 شباط/فبراير الماضي، ولم ترصد أي بقايا من البقعة النفطية في مياه البحر، “وهو أمر يدعو للإطمئنان إلى حد كبير، خصوصًا لجهة الثروة السمكية، حيث تهرب الأسماك عند استشعارها لأي مواد سامة”، بحسب قولها، مع العلم أن بعض الكائنات الحية تأثّرت نتيجة البقع النفطية على سطح المياه، لا سيما السلاحف البحرية التي غالبًا ما تضطر للخروج إلى السطح لتتنفس.
السلاحف
وفي ما يتعلّق بالسلاحف، أوضحت مسيلب أنها من الزواحف ولديها آلية خاصة للتنفّس حيث أنها لا تتنفّس كالأسماك، إنّما تضطر للخروج إلى سطح المياه لتتمكّن أكياس الهواء تحت الجلد من التشبّع بالأوكسجين لتستخدم هذا المخزون خلال وجودها تحت المياه؛ “وكون البقعة النفطية كانت لا تزال على سطح المياه، فالسلاحف التي صودف وجودها خلال هذه الفترة بتلك الأماكن المغمورة ببقع النفط وصعدت من خلالها إلى السطح، تغطّى جسمها بالنفط واختنقت به”، وفقًا لـ”مسيلب” التي أضافت: “أما الأسماك، فهي لا تحتاج للصعود إلى السطح ولم تتأثر مباشرة بالتلوث النفطي، كما سيُطبّق لاحقًا برنامج مراقبة وتحليل لترقّب حصول تبعات أو تسرّب لمواد متحلّلة من بقايا المادة النفطية إلى البيئة البحرية على المدى المتوسط والطويل، وبالتعاون مع منظمات بيئية عالمية”.
جزيئات متناهية في الصغر
من هنا، شدّدت مسيلب على أهمية إزالة الحبيبات والجزيئات الصغيرة من بقايا هذا النفط، وجمعها بطريقة دقيقة وعلمية كافية وشاملة، علمًا أن عملية الغربلة العادية لا تزيل كافة الحبيبات، “لذلك يجب أن تتم المعالجة بصورة أدق وباستخدام المعدات والآليات المناسبة، لمنع تسرب هذه الحبيبات الصغيرة مع الوقت إلى مياه البحر والنظام الإيكولوجي، حيث يمكن أن تتحوّل إلى جزيئات متناهية في الصغر Micro particles، قد تتسبّب بتلوّث وبتسمّم جزيئي Micro Intoxication للأحياء البحرية والشاطئية حيث تواجدت، وهو ما نتابعه في المحمية مع المنظمات البيئية الدولية، ولا سيما جامعة سيينا الإيطالية، ومركز باري للبحوث – إيطاليا، وجامعة سوسة التونسية، وذلك ضمن خطّة ملاحقة ومراقبة Monitoring Plan مستمرّة ودورية، على فترة شهر ثم ستة أشهر وسنة وسنتين”.
وأردفت: “أما حاليًا، فالأسماك لا خوف عليها ولا خطر يهدّد الثروة السمكية”، مؤكدة أنه لم يتم تحديد الكمية بالضبط، حيث غلفت المادة النفطية بطبقة رقيقة من الرمل وبنسب مختلفة، ولكن الأهم هو غربلة المواد والتخلّص من المادة النفطية المتسربة”.
أما الحديث عن كمية محدّدة، اعتبرت مسيلب أنه موضوع تم تحديده وتقديره بصورة عشوائية وشعبوية وبطريقة غير علمية وغير دقيقة، لافتة إلى أنه ووفقًا لتصريح العدو الإسرائيلي، تبلغ الكمية المسربة بين عشرات ومئات الآلاف من الأطنان من النفط، “وننتظر التقرير الدقيق من مجلس البحوث العلمية لجهة الكميات، فحاليًا، الموجود لدينا هي توصيات من قبل المجلس للعمل بها بهدف احتواء التلوث النفطي، عبر التخفيف بالصورة الأكبر عبر غربلتها”.
من جهة أخرى، شكرت مسيلب كل من ساهم في حملة تنظيف الشاطئ، مشيرة إلى أن معاينة الشاطئ جرت من قبل أمين عام مجلس البحوث العلمية والنائب الدكتورة عناية عز الدين، ورئيس اتحاد بلديات صور ورئيس بلديتها حسن دبوق، ومدير مركز علوم البحار الدكتور ميلاد فخري، ومدير مركز الإستشعار عن بعد التابع لمجلس البحوث العلمية الدكتور غالب فاعور، والدكتور شادي عبدالله من مجلس البحوث العلمية والذي أجرى مسحا عبر “الدرون”، وفريق من IUCN ممثلًا بزياد سماحة، وفريق المحمية ممثلًا بمديرتها د. ناهد مسيلب، وذلك لمتابعة الحملة التي شارك بها ناشطون مدنيون من جمعيات أهلية وبيئية ومراكز غوص وإعلاميين.
أما العدد الأكبر المشارك، وفقًا لمسيلب، فهو من فوج كشافة الرسالة، وقد قدمت بلدية صور معدات جمع ورفع التلوّث عن الرمل، من أمشاط وغرابيل وأكياس، وتمّ جمع هذه الأكياس بمعدّات ثقيلة في الحديقة العامة المحاذية للمحمية، بهدف إرسالها إلى منشآت خاصة لمعالجتها واستخدامها للتزفيت وغيره، ولمنعها من تلويث إضافي للشاطئ.
مركز علوم البحار
من جهته، رأى مدير مركز علوم البحار، د. ميلاد فخري، في حديث لـ”أحوال” أن “هذه أزمة بيئية طارئة وخطيرة، وقد تابعنا في مركز علوم البحار التابع لمجلس البحوث العلمية وبالتعاون مع IUCN عملية المسح، ووصلت إلينا البقعة النفطية نتيجة الأحوال الجوية من الأراضي المحتلة، ونحاول الآن احتواء هذا التلوّث بكافة الطرق مع ما يشكّله من تهديد للنظم البيئية الشاطئية، من الناقورة وصولًا إلى عدلون، علمًا أنّنا لم نجد أي دلائل على وصوله إلى صيدا، بينما وصلت بعض تأثيراته إلى شاطئ الرملة البيضاء، وليس لدينا أي معلومات حاليًا على وصول البقعة إلى شمال الشاطئ اللبناني”، مضيفًا: “وحاليًا ووفقًا لعمليات الغوص التي أجريت وتجري جنوبًا، ليس هناك ترّسبات نفطية، أي لا خطر على الثروة السمكية ولكنّنا سنتابع عمليات المسح وفحص العينات على المدى المتوسط والبعيد لدراسة كافة الآثار البيئية لهذه المواد على الشاطئ اللبناني”.
وختم فخري حديثه لموقعنا بالإشارة إلى أن النتؤات الصخرية في الناقورة والمواد البلاستيكية، فضلًا عن الشواطئ المحتوية على الكائنات القشرية والأصداف، تؤدّي إلى صعوبات جمّة في احتواء هذا التلوّث، “وليست لدينا تقديرات حول كميته بالضبط، وإن كنا قد قدّرنا الكمية في محيط محمية صور الطبيعية بحوالي 2 طن، ونعمل على احتوائه عبر خطّة مسح وتنظيف منهجية، بالتعاون مع إدارة المحمية واتحاد بلديات صور وبلدية صور والجمعيات والمنظمات الدولية والوطنية وناشطين”، لافتًا في هذا الخصوص إلى أن الشاطئ اللبناني هو الذي تأثّر ومعظمه جنوبًا، ولم يتم الإبلاغ عن وجود النفط في مواقع أخرى.
سوزان أبوسعيد ضو