في الرابع من شهر آب من عام “النكبات الكبرى”، أي العام 2020، هزّ انفجارٌ ضخم مرفأ بيروت أودى بحياة عدد كبير من المواطنين وألحق أضراراً جسيمة بالممتلكات العامة والخاصة وتراث المدينة ومعماريتها، وربما يؤدي لانفجار النظام وتحلل السلطة المركزية وتفكك أوصال الدولة، ما قبل الانفجار ليس كما بعده…. هو بمثابة 11 ايلول لبنان.
الصدف الغريبة أن هذا العام هو ذكرى مرور قرن على اعلان دولة لبنان الكبير من قبل المستعمر الفرنسي، وقد شكل المرفأ نقطة ارتكاز اساسية في فلسفة قيام الكيان وقدرته على العيش، وهو المرفأ التاريخي منذ حقبة الفينيقيين، ولكنه بعد تراجع قوة السلطنة العثمانية كان المدخل الفعلي للبعثات الغربية الاستشراقية التبشيرية كنقطة انطلاق للوصول إلى جبل لبنان ومنها إلى البر الآسيوي.
مع قيام لبنان الكبير والتحوّلات الاقتصادية في المحيط، أصبح ميناء بيروت ممرًّا رئيسيًا لخدمة تجارة النفط وحركة الركاب والبضائع ذات الصلة ببلاد الشام والخليج، وما جعله يشكل نقطة تحول رئيسية في تاريخ العاصمة وتحولاتها الاجتماعية والسياسية ونهضتها الاقتصادية، وشكل العمود الفقري لقيام مركزية الدولة وتمحورها حول بيروت وضواحيها.
إذن، منذ منتصف القرن الماضي أضحت بيروت، نفسياً ومادياً، قبلة الأنظار ومصدر السلطة وقوة شكيمتها، وساهم دور المرفأ بقيام وامتداد كل الضواحي في محيطه، وكل ذلك أدى الى تغيّرات عميقة في كل المفاهيم الاجتماعية والثقافية والسياسية، ونشوء بيئات مختلفة تجذرت إلى حدٍ ما خلال قرنٍ من الزمن وشكّلت طوابع مختلفة ومتنوعة.
انفجار يهز عمق الكيان
ومن هنا يمكن القول أن المرفأ قد أعاد التشاكل الهندسي للمدينة مع التوزيع البشري للسكان، بحيث تصبح العمارة والشوارع بدءًا من المرفأ – المركز، وعاءً يتم حشوه بأعداد ضخمة من شرائح المجتمع والحالات السكانية الفريدة التي ساهمت بالتحولات العميقة في المدينة وعلى امتداد الكيان اللّبناني.
وساهم المرفأ بمركزية بيروت على حساب كل الأطراف والمدن والموانئ الأخرى، وتسبب إلى حدود كبيرة بتغيير النمط الاقتصادي اللّبناني عبر مجموعة من التجار والوكالات الحصرية، ولكنّه أيضاً قد ساهم بتشوّه النظام الاقتصادي والسياسي لغياب التخطيط والتوجه الاقتصادي الصحيح وكان القرار بذلك بيد مافيات السياسة والإقطاع المالي والاقتصادي وشبيحة السلطة على تعاقب أسمائها.
وما يوصف بالهبّة الاقتصادية الكبيرة ما بعد منتصف القرن الماضي إلّا أنّ الازدهار المالي والسياحي لم يتواكب مع تطوير للنظام السياسي وتوزيع عادل للثروة، وتحوّل مرفأ بيروت وتجاره ومحيطيه إلى سيف مسلط على كل القطاعات الإنتاجية في البلاد وكان باباً مفتوحاً للاستيراد والمضاربة، وهذا بالطبع ترافق مع صراع سياسي كبير أدّى إلى انفجار الحروب الكبرى والصغرى.
في لحظة واحدة مسّ انفجار المرفأ عمق الوجدان في الكيانات المحيطة، سيّما وأنه قد ضرب بشكل مباشر أحياء الجميزة، الجعيتاوي، الأشرفية، مار مخايل، الكرنتينا (محطة الحجر الصحي العثماني للقادمين عبر المرفأ) والوسط التجاري….، وهي بيئات متعددة الانتماء الطبقي والمذهبي لكنّها إلى حدٍّ ما كانت تتشارك بعضاً من الأمان الاجتماعي والسياسي الهادئ، وهذا ما يفسر ردّة فعلها العنيفة الآن ضد رموز السلطة.
ومن هنا يمكن قراءة بعض من نتائج الانفجار الضخم في قلب لبنان الكبير، والآثار الضخمة التي سيتركها على مستقبل الكيان اللبناني:
1- حجم التدمير الكبير بمنشآت الميناء يصعب اصلاحه سريعاً، وارتفاع تكلفة الإصلاح والترميم في ظل انهيار اقتصادي.
2- تحوّل سريع نحو الموانئ الداخلية الأخرى ما سيساهم في اعتمادها لاحقاً.
3- منافسة حادّة مع الموانئ الخارجية في المنطقة يصعب لمرفأ بيروت اللّحاق بها.
4- المنافسة على إعادة إعمار المرفأ بين دول الغرب والصين سيجعله محطّ خلاف سياسي يصعب حلها عاجلاً.
5- ضمن الخريطة المفترضة لطريق الحرير الصيني يقع مرفأ طرابلس على رأس المشروع ما يطرح تساؤلًا عن دور مرفأ بيروت لاحقاً.
6- قامت فلسفة الكيان اللّبناني على أولوية “وطن السياحة والخدمات” فأي سياحة وخدمات بقي لوطن الأرز؟.
بغض النظر عن صورة الحدث الخارجية العنيفة، لكنّه بالعمق هو زلزال قد جرف مع حجارة المرفأ ومحيطه جزءًا من تاريخ بيروت ولبنان والمنطقة، وحفر عميقاً في وجدان “اللبنانوية” المأخوذة بنظريات ميشال شيحا وجماعة المصارف والخدمات دون الالتفات للإنتاج الوطني في الأرياف والمدن البعيدة عن سلطة العاصمة.
هي لحظة تقول لنا: لبنانكم القديم قد انتهى وهذا مصدر قوّته قد تناثر هباءً، لا تبكوا عليه الآن وانتم لم تحافظوا عليه سابقاً، طيلة قرنٍ من الزمن كنتم رمزاً لفساد سلطات جاء بها الأجنبي وحماها الفساد ونهبت خيرات البلاد، ولم تسمح بتطور الإدارة والسياسة أو تعمل على توزيع عادل للثروة وتستغربون لماذا انفجر الفساد بنترات الأموينيوم، وهل تستحقون أفضل من هذه النهاية؟.
عامر ملاعب