السياسة الصحية: إنفاقات غير مجدية والغاء مشاريع حيوية
تسعى النظم الصحية في العالم إلى ضمان صحة الفرد، والتركيز على الوقاية التي أثبتت فعاليتها في تحسين صحة المواطن، وخفض الفاتورة الصحية. ومن هنا يأتي دور وزارة الصحة في بناء سياسة صحية مرتكزة إلى الأدلة العلمية، وتوزيع الخدمات على المستفيدين. أما في لبنان فيبدو المشهد مختلفاً، حيث تم تعطيل الكثير من المشاريع الصحية الحيوية لعدم توافقها مع مصالح بعض السياسيين. كل هذه الأمور يحكي عنها مستشار وزير الصحة الدكتور “بهيج عربيد” ونقيب الصيادلة السابق “جورج سيلي” في حديث لـ”أحوال”.
المكتب الوطني للدواء… حجج واهية للتعطيل
بعد أن كان المكتب الوطني للدواء على قاب قوسين أو أدنى من الانطلاق، صدر قرار عن مجلس الوزراء، في عهد الرئيس رفيق الحريري بإلغائه. ويوضح مستشار وزير الصحة للبرامج الصحية الدكتور بهيج عربيد أنّ الدراسات التي أجراها خبراء مختصون أكَّدت على أهمية إنشاء المكتب الوطني للدواء، لما له من دور في تخفيض أسعار الدواء، لتصل إلى 40%. الذريعة التي تذرّعوا بها حينها أنّ الدولة تريد أن تشرّع المنافسة، وتضرب الإحتكار_ التي يعتبرها عربيد حجَّة واهية، قائلاً: “في كل دول العالم هناك ما يعرف بمركزية الشراء. أي أن هناك مؤسسة واحدة تقوم بشراء الدواء، وتتولَّى عملية توزيعه، وهذا من شأنه ليس فقط تخفيض السعر، بل التأكيد أيضا على الجودة والنوعية.”
المختبر المركزي للدواء
لم يكن المكتب الوطني للدواء الوحيد الذي تم تعطيله لأغراض سياسية، بل واجه المختبر المركزي للدواء نفس المصير. ويقول عربيد: “بعد أن كان للبنان أهمَّ مختبر مركزي في الشرق الأوسط، وكان يقع في منطقة عين التينة، جرى إيقاف العمل به فجأة، ومن دون إعطاء مبرّرات مقنعة. بعد ذلك بدأ العمل على إنشاء مختبر مركزي آخر في منطقة الكرنتينا، وعلى درجة عالية من التطور، وهو يشمل التحقّق من سلامة الغذاء والدواء والماء، وبكلفة لا تزيد عن ستة ملايين دولار. ويضيف، وبالرغم من ذلك، لم يتم تأمين المبلغ، فتوقف المشروع. أما التبرير فكان أنّه سيتم إنشاء المختبر في مستشفى رفيق الحريري الحكومي، وحتى الآن مازلنا ننتظر قيام هذا المختبر”.
المستشفيات الحكومية: صراع على الادارة
وبالرغم من كلّ الأموال الطائلة التي تم صرفها من جهات مانحة على بناء مستشفيات حكومية حديثة، فإنّ بعض هذه المستشفيات لا يزال خارج الخدمة حتى اليوم، والأسباب سياسية، يقول عربيد الذي يوضح: “على سبيل المثال، هناك المستشفى التركي على مدخل صيدا، وهو من أحدث المستشفيات تجهيزاً، ولا يزال معطلاً بسبب الخلاف السياسي على إدارته. وكذلك الأمر بالنسبة لمستشفى خليفة في شبعا، الذي تم تشييده يتمويل إماراتي وبنظم حديثة جداً. ومع ذلك، فإنّ هذا المستشفى لا يزال معطلاً حتى اليوم، والسبب أنّه جرى بناؤه لغايات سياسية، بالدرجة الأولى، وذلك في عهد الرئيس فؤاد السنيورة، ومن دون تخطيط سليم، فهو يقع في منطقة لا يتجاوز عدد سكانها الأربعين ألف نسمة، ويوجد فيها مستشفيان؛ الأول في مرجعيون، والثاني في حاصبيا”.
ويتابع عربيد، حاولت وزارة الصحة القيام بمسؤولياتها، فعرضت على جمعية المقاصد استلام المستشفى وتشغيله، ولكنها رفضت. كما أنّها عرضت الأمر على الحكومة الإمارتية، الجهة الممولة للمشروع، والتي رفضت أيضاً. فيما يخص المستشفيات الحكومية يشير عربيد إلى محاولة جرت لضبط عملية الإنفاق والهدر في شراء المستلزمات الطبية، وذلك عبر إقامة مركزية واحدة للشراء وتكليف مسشفى رفيق الحريري بالأمر، إلا أنّ المحاولة باءت بالفشل؛ لأنّ وزارة الصحة لم تدفع للمستشفيات لتقوم بدورها بدفع ما يتوجَّب عليها. وفي مجال توفير النفقات أيضاً، جرى اقتراح تكليف مؤسسة واحدة القيام بكل الخدمات اللوجستية المتعلّقة بالمستشفيات الحكومية، مثل الصيانة والأمن وغيرها، وذلك من خلال التعاقد مع شركة تتولَّى كلَّ هذه الخدمات، يجري اختيارها من خلال مناقصة يفوز بها أفضل عرض، ولكن أيضا هذا الاقتراح لم يتم الأخذ به.
الصناعة الدوائية … تجميد العرض الإيراني
تمثل الصناعة الدوائية في لبنان حوالي 15% من الحاجة الوطنية للدواء. وهي تستوفي كلَّ الشروط العالمية، ولكن المشكلة أن معظم المصانع في لبنان تقوم بتصنيع نفس الأدوية تقريباً؛ الأمر الذي لا يشجِّع على القيام بصناعات محلية إضافية. زد على ذلك غلاء اليد العاملة، وعدم قدرة لبنان على لعب دور منافس في الأسواق العالمية. وفي هذا المجال يكشف عربيد عن عرض تقدَّمت به إيران لإقامة شراكة مع قطاع الدواء في لبنان، “ثقةً منها بقدرة لبنان أن يكون جسر عبور لصناعتها الدوائية إلى كل أنحاء العالم.” وقد جرى طرح الموضوع على بساط البحث، خلال زيارة قام بها وزير الصحة الإيراني إلى لبنان، وجرى إعداد الدراسات، من قبل لبنان وإيران لهذا الموضوع ؛ إلا أنّ الأمور توقفت عند هذه النقطة، والأسباب معروفة، بالرغم من الفائدة الكبرى التي كان سيجنيها لبنان من هذا المشروع.
ويشير عربيد في حديثه عن موضوع الدواء اليوم، ويقول: “إنّ هاجس وزارة الصحة هو كيفية استمرار تقديم الخدمات الصحية للمواطن، وخاصة في ظل فقر الناس، وإفلاس الدولة؛ ولا سبيل لذلك، إلا من خلال ضبط عملية الإنفاق وترشيده”. ويضيف: “يجب إعادة مناقشة لائحة الأدوية الأساسية المتوفّرة في المراكز الصحية والمستوصفات، ويبلغ عددها حوالي 180 دواءً؛ لأنه في ظلّ الحالة الاقتصادية المزرية، فإنّ دور مؤسسات الرعاية الأولية ذاهبٌ نحو الاتساع. اليوم تبلغ كلفة الفاتورة الصحية في لبنان 3 مليار دولار، يذهب منها مليار دولار لشراء أدوية. هذا الإنفاق يمكن تخفيضه، خاصة إذا عرفنا أن هناك 5000 دواء مسجَّل في لبنان، في حين أنّ عدد الأدوية المسجَّلة في معظم دول العالم لا يتجاوز 1500 دواء؛ لذا يجب التوجه أكثر وأكثر نحو السوق المحلِّي”.
جورج سيلي: نقابة الصيادلة مسؤولة
من جهته، يرى نقيب الصيادلة السابق جورج سيلي في حديث لـ”أحوال” أنّ المشكلة في أنّ البعض عندنا يتعاطى مع قطاع الدواء كسلعة تجارية. “في حين أنّ التعاطي مع هذا الملف يجب أن يكون انسانياً وأخلاقياً بالدرجة الاولى، حتى لا نكون مساهمين في تخريب القطاع”. ويحمّل سيلي مجلس النقابة الحالي مسؤولية ما يحدث اليوم في قطاع الدواء، “فهو يتعاطى بملف الدواء بعقلية تجارية خالصة”. مضيفاً، “هذا ليس اتهاماً بل واقعاً، فهم في الأصل أتوا إلى مجلس النقابة من عالم التجارة”.
النقابة قولاً لا فعلاً
أمّا عن أزمة فقدان الدواء من الصيدليات، فيرى النقيب السابق أنّ المسؤول عنها بالدرجة الأولى هو نقيب الصيادلة الحالي، “الذي لم يتوقف منذ شهرين حتى اليوم عن الخروج إلى المواطنين بمواقف وتصريحات تتحدث عن قرب رفع الدعم عن سعر الدواء من دون أن يقدم خطة بديلة لمواجهة الموقف”، ويحملّه مسؤولية وضع المواطن في مواجهة مع الصيدليات، وإحداث حالة ذعر وهلع جعلت الناس يتهافتون لشراء الدواء وتخزينه في المنازل خوفا من انقطاعه.
سياسة الدعم… المستفيد هو التهريب
وفي ما يتعلٌّق بمسألة دعم الدواء، يرى نقيب الصيادلة السابق أنّها يجب أن تكون منظمة ومحدّدة. “فالدعم المطلق أدّى إلى نتائج عكسية أهمها تنشيط عملية التهريب الى الخارج. ويدعو إلى استبدال الدعم للدواء المستورد بدعم المواد الأولية المخصصة للصناعة الدوائية المحلية، الأمر الذي يؤدي الى ازدهادر قطاع الدواء المحلي، وإيجاد فرص عمل للبنانين ووقف النزف في الخزينة اللبنانية.
ويرفض سيلي كل الحجج التي يسوّقها البعض حول أسباب التقنين في تسليم الصيدليات ويقول: “في النهاية النتيجة واحدة، وهي انقطاع الدواء عن المواطن سواءً بسبب عمليات التهريب أو التقنين في التسليم من قبل شركات الأدوية.”
السياسة تعطّل الحلّ العلمي
وعن كيفية الخروج من هذه الأزمة، يطرح نقيب الصيادلة السابق حلاّ باستحداث نظام صحي متطوّر يشترك في وضعه كل من نقابة الصيادلة ووزارة الصحة ونقابة الأطباء. ويضيف: “هناك الكثير من الدول المتطورة التي سبقتنا في هذا المجال، يمكن الإطلاع على أنظمتها الصحية واقتباس ماهو مفيد منها بالنسبة لنا”.
وعن الوصفة الطبية الموحدة، والتي اعتُبرت إنجازا لوزارة الصحة في وقت سابق، ليتبيّن فشلها في ما بعد، يكشف سيلي أنّ فكرة قيام نظام الكتروني لمراقبة مدى التزام الأطباء والصيادلة بالوصفة الطبية هي فكرته في الأساس، وهو من قام بطرحها على مدير عام الضمان الإجتماعي عندما كان نقيباً للصيادلة عام 2018 وجرى الاتفاق بشأنها معه. و يضيف، كان المشروع على قاب قوسين او أدنى من الانطلاق عندما قام أربعة نقباء صيادلة سابقين بزيارة الى مدير عام الضمان طالبين وقف العمل بالمشروع، وعندما لم يستجب لطلبهم جرى الاتصال بمرجعيات سياسية معينة التي مارست ضغوطاً لوقف المشروع.
مع الجنريك ولكن بشروط
ويؤيّد سيلي انطلاق المختبر المركزي، موضحاً “إذا كان الهدف منه التدقيق في جودة ونوعية الأدوية التي تدخل لبنان بعد تسجيلها.” هذا، ويؤيد كذلك كل ماقيل عن انخفاض سعر الدواء في لبنان. ويقول: ” 90 % من الأدوية في لبنان يبلغ ثمنها اليوم تحت العشرون الف ليرة لبنانية”. ويستدرك، إذا كانت الأسعار قد وصلت إلى هذا المستوى، فلماذا علينا تشجيع عملية ادخال الدواء “الجنريك”؟ بل على العكس يجب علينا تجشيع الدواء البراند، والذي هو الدواء المبتكر. ويضيف “هذا لايعني أننا ضد ادخال الدواء “الجنريك” والتعامل به كصيادلة، إنّما ذلك يجب أن يترافق مع قيام دليل إرشادي علمي يحدّد للصيدلي الدواء (الجنريك) الذي يجب إعطاءه للمريض كبديل لوصفة الطبيب، وهذه مسؤولية وزارة الصحة.