خطيئة كلودين عون
منذ بضعة أيام عندما أعلَنتُ عن مقابلتي مع كلودين ميشال عون عبر برنامج هنا بيروت على قناة الجديد، أعلنتُ أنّه سيكون نقاشًا “من دون كفوف”.
تمامًا هكذا حصل.
اقتُطِع من المقابلة الجزءُ الأكثر إثارة للجدل وفيه تقول عون إنّها لا تمانع السلام مع اسرائيل وإنّ لا خلاف عقائديًا معها.
ومنذ لحظة هذا التصريح حتى لحظة كتابة هذا المقال، لا يزال هذا الأمر موضع جدل ونقاش في البلاد. ضجّت مواقع التواصل بمن يدافع، ومن يؤيد، ومن يشجب، ومن يفسّر ويحلّل. لذلك، فلنكمل هذا النقاش هنا وأيضاً “بلا كفوف”.
المفكرون والكتّاب والصحافيون التقليديون في خط الممانعة استنكروا بمطوّلات على صفحاتهم معتبرين أنّ كلودين عون لا تمثّل رأيًا شخصيًا بل لها صفة حكومية على اعتبارها رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة. ومعنويّة، على اعتبارها ابنة رئيس الجمهورية. واعتبروا أنّ في موقفها رسائلٌ ومعانٍ.
هكذا تمامًا، لم تتأخر الصحف الإسرائيلية بالتقاط الحلقة وعرضها، فتناولت جيروزاليم بوست موقف كلودين عون وخرج تعليقٌ على كلامها من وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس الذي قال: “أسمع في لبنان أصواتًا تتحدّث عن السلام، على اللّبنانيين أن يعلموا أنّ حزب الله مشكلتهم وليس إسرائيل وسيدفعون ثمن أيّ عدوان”. وللمفارقة أن غانتس كان آخر جنديّ إسرائيلي يخرج من لبنان مقفلًا بوابة فاطمة في 25 أيّار من العام 2000.
موقف غانتس كان كفيلًا بإشعال نقاش عميق حول تأويلات ما قالته كلودين عون. فغرّد الصحافي قاسم قاسم على صفحته “هل تعلم كلودين عون أنّ حديثها عن السلام مع العدو الإسرائيلي وصل إلى مسامع وزير الأمن بني غانتس”. والبعض ذهب أبعد من ذلك، فحمّل رئيس الجمهورية مسؤولية كلام ابنته كلودين، كالكاتب محمد نزّال الذي حمّل العائلة كلّها المسؤولية. فردّ قائلًا “ايه تعلم، ويلي رتب إطلالتها يعلم، والعائلة كلّها تعلم ويلي لا يعلم الآن يعلم”.
في المقابل وفي مقلب آخر، هناك من اعتبر أنّ ما قالته كلودين عون يمثّل تطلعاتِه وآراءَه. فكانت الأولى التي عبّرت عن ما يتهامسه كثيرون في الصالونات السياسية ولكنّها تحدّثت عنه فوق الطاولة على شاشة التلفزيون.
وعليه، نطرح إشكالية النقاش من دون كفوف: هل كلّ اللّبنانيين ضد السلام مع إسرائيل؟ وهل ما قالته كلودين عون يمثّلها فقط أو يمثّل شرائح واسعة في المجتمع اللّبناني؟
منذ أكثر من عامين بدأ الكلام عن أنّ حزب الله لم يعد يتمتع بإجماع لبناني بين كلّ الطوائف. فهو ورغم إبرامه ورقة تفاهم مع المكوّن المسيحي الأكبر في البلاد وعلى رأسه رئيس الجمهورية لم يستطع الفوز بالوجدان المسيحي رغم أشهر عسل طويلة ولّت بينه وبين الحليف المسيحي.
كتب سابقًا عن ما يحاكي هذه الفكرة تحديدًا المفكّر السياسي أسعد أبو خليل في ما معناه أنّ فصائل المقاومة عادة ما تخسر عندما ينحسر الإجماع الشعبي حولها محذّرًا من أنّ حزب الله بدأ يخسر الإجماع الشعبي حوله في لبنان. مضت السنوات وانسحب انحسار التضامن مع حزب الله على الشرائح الشعبية الأقرب إليه. إلى جمهور حليفه وجزء من جمهور طائفته. رافق ذلك أزمة حادّة عانى منها لبنان كانت نتيجة لنظام عقيم وفساد عميق. إلّا أنّ النتيجة كانت أنّ جزءًا من اللّبنانيين كفر بكل شيء دون استثناء.
إضافة إلى ذلك، لا يمكننا أن نسقط العوامل التاريخية الأخرى. الذاكرة الجماعية لشريحة من اللّبنانيين كانت في زمن مضى إمّا مرحّبة بالإسرائيلي أمّا متحالفة معه. وعليه، على النقاش اليوم أن يغوص فعلًا في قناعة لبنانية موجودة لا تعادي إسرائيل وتعتبر أنّ انسحابها من احتلال الأراضي اللّبنانية يعفي اللّبنانيين من قتالها تمامًا كما كان الحال مع سوريا منذ خروجها من لبنان. فهناك من يقارب العلاقة مع إسرائيل كما يقاربها مع سوريا وهذا أيضا عبّرت عنه كلودين عون في الحوار التلفزيوني عينه، ما استدعى السؤال عن مدى صحّة المقارنة بين سوريا وإسرائيل.
ليس بعيدًا من هذا النقاش، ومنذ حوالي الأسبوع قال الرئيس السوري بشار الأسد، إذا انسحبت إسرائيل من الجولان لا مانع من العلاقة معها. فإذا كان الرئيس السوري في هذا الموقع لماذا المفاجأة بشريحة من اللّبنانيين أن تكون في هذا الموقع أيضًا. هذا ما عبّرت عنه الصحافية غدي فرنسيس عندما غرّدت قائلة “لا أرى أي مفاجأة. إنّ ما قالته يعكس شريحة كبيرة جدًا من مجتمع لبنان. بلا مبالغة، كل ضيعتنا بتفكر متلها”. فكان ردّ محمد النزال أكثر من عبّر عن حجم الانقسام اللّبناني والمفارقات الاجتماعية الثقافية في المجتمع اللّبناني فقال:
”هيدا يلي لازم ينقال. أغلب ناس هالبلد ما بتعرف هالبلد. كلّها دوائر شبه مقفلة ويلّي داخلها غالباً مفكرين العالم بيشبههم. هيدا بالعموم كناس. بس بخصوص كلودين، فهي صاحبة موقع حكومي. مش “مواطنة” عادية. بتفرق شوي”.
ختامًا، إذا أراد المرء أن يقرأ في هذا الخطاب عليه أن يقرأ لا من باب التنظير ولا من باب التخوين، عليه أن يقرأ في من كان السبب في إنضاج هذه القناعة اليوم.
هل خصوم المقاومة وحدهم من يتحمّل المسؤولية؟ أم أنّنا لمرّة واحدة، لن نختبئ خلف أصبعنا.
جوزفين ديب