منع تخفيض سن الإقتراع.. إنتهاك لديمقراطية الإنتخابات في لبنان
بقلم: فاطمة جمعة
ينطلق الرئيس الأميركي الأسبق، أبراهام لينكون، في تعريفه للديمقراطية بأنها “حكم الشعب من الشعب وللشعب”؛ وبما أنها تقوم على مبدأ الشعب مصدر السلطات، فهي بذلك تؤكد الأهمية البالغة لعملية الإنتخابات كوسيلة يستطيع المواطنون من خلالها حماية حرياتهم وحقوقهم المدنية.
بالعودة الى تاريخ الحق بالإقتراع، نجد أنه كان منوطاً بمعايير جندرية ومهنية غير عادلة، إذ يقتصر على فئة محددة من الرجال كمالكي الأراضي أو دافعي الضرائب، ويحرم المرأة كلياً من هذا الحق.
اما الآن وقد تطور حق الإقتراع المباشر للمواطن، انحصرت شروطه بالعمر والجنسية وممارسة الحقوق المدنية والسياسية. وكما جاء في المادة 21 من الدستور اللبناني: “لكل وطني لبناني بلغ من العمر إحدى وعشرين سنة كاملة، الحق في أن يكون ناخبًا على أن تتوفر فيه الشروط المطلوبة بمقتضى قانون الإنتخاب”؛ هكذا يكفل الدستور حق الإقراع، لكنه يطرح إشكالية أن “كيف لبلد ديمقراطي مثل لبنان، ضامن للحرية والمساواة، أن يحرم شريحة جيدة من الشباب من المشاركة في الحياة السياسية؟”.
في إضاءة على نماذج بعض الدول، هناك 146 دولة في العالم تعتمد سن 18 حدا أدنى للإقتراع، حسب معطيات جريدة الأخبار (العدد 583)، السن الذي تعتمده أيضاً أكثر من نصف الدول العربية منها مصر وسوريا؛ ثلاث دول تعتمد سن 17عاما، فيما ذهبت الصومال أبعد من ذلك لجعله 16 عاما، ويأتي لبنان من ضمن 15 دولة تعتمد سن إنتخابي 21 عاما الى جانب الكويت.
لقد أثبت الشباب اللبناني في الفترة الأخيرة أنهم عصب الإحتجاجات وقادة الساحات، وأن دورهم ليس فقط خلف المقاعد الدراسية، بل في كل مقعد من المقاعد النيابية؛ فلبنان يعتبر من الدول الفتية ما يجعلهم قوة إنتخابية لا يستهان بها، لها فعالية وقدرة على التحرك وتحديد الخيارات السياسية بمعزل عن منطق التبعية.
يرزح هدف الشباب بعمر 18 في التحصيل العلمي والإكتساب الثقافي لبناء قراراتهم وتوجهاتهم على أساس علمي واقعي، الأمر الذي يجعل آراءهم متحررة من كل إملاء وسلطة، وهذا ما أظهرته الندوات الجامعية والبرامج التلفزيونية ذات النقاش السياسي، أن فئة الشباب هي الأكثر اندفاعا للمشاركة وإبداء الرأي، بالإضافة الى تطور نظام المعلوماتية ووسائل التواصل الإجتماعي التي جسدت فضاء واسعا يتيح لهم التأثير وتوصيل الأفكار ومساحة آمنة للتعبير دون قيود.
بين السن القانوني والسن الإنتخابي إزدواجية في المعايير تتجلى في الدستور اللبناني
نصت المادة 214 من قانون الموجبات والعقود على أن “سن الثمانية عشر هو سن الرشد القانوني الذي يملي على المواطن كامل المسؤولية المدنية، بدءاً من الزواج والعمل وإبرام العقود، وصولاً الى حيازة رخصة سوق؛ كما تقع على عاتقه مسؤولية جزائية تصل عقوبتها الى الحبس”. لكن عندما يصل الأمر الى الإنتخاب، تأتي المادة 21 لتدحض كل هذه المسؤوليات تحت ذريعة الرشد السياسي.
أمام هذا الواقع القانوني المتناقض الذي أفرز نوعا من الإزدواجية في المعايير، تسقط كل الإعتبارات المتعلقة بالوعي الإنتخابي والإهتمام السياسي، لأن الذي ينظم ويشارك بالإنتخابات الطلابية ويلتحق بالأحزاب والجمعيات والعمل التطوعي وينخرط بالسلك العسكري، يستطيع أن ينتخب ممثليه الى سدة الحكم بكامل الحرية والإرادة.
الحالة نفسها كمنت في القانون الأميركي، حيث لوحظ أن الجنود الأميركيون يرسلون الى حرب الفيتنام ويحاكمون جنائيا كراشدين دون أن يكون لهم حق التصويت، حينها تم تخفيض سن الإقتراع الى 18 عام 1971.
إن الخلفية القانونية لضرورة خفض سن الإقتراع تتبين أولاً في مقدمة الدستور اللبناني الذي شدد على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين اللبنانيين أمام القانون دون أي تمييز على أي أساس كان، ما يؤكد أحقية الشباب في الإنتخاب إسوةً بباقي الفئات العمرية.
ثانياً، كفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق كل مواطن المشاركة في الشؤون العامة لبلده، وبما أن لبنان من الدول الموقعة عليه وملتزمة تطبيقه وفق ما جاء في مقدمة الدستور، أصبح الإعلان يتمتع بقوة دستورية توجب توافق بنوده المنصوصة عام 1948 مع مختلف القوانين.
ثالثاً، ضمن هذا الحق في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وعدد من الإتفاقيات والمواثيق الدولية.
يحقق تعديل السن الإنتخابي مكاسب هامة، منها زيادة صحة وشرعية المجلس النيابي من خلال توسيع قاعدة الناخبين وإشراك الشباب بالحياة السياسية؛ فالمشاركة بالشأن العام تتم عبر أشكال مختلفة كالمراقبة، إبداء الرأي، الحوار، المساءلة والإحتجاج، إلا أن عملية التصويت تبقى الوسيلة الأكثر فعالية.
وبالإضافة الى إحترام حقوق الإنسان وتعزيز الديموقراطية في الإنتخابات، فإن كان غير ممكنا وجود ديموقراطية دون مشاركة المواطنين في إدارة شؤون بلادهم، فمن غير الممكن أيضاً مشاركة المواطنين دون إشراك الشباب اللبناني على حد سواء.
تخفيض سن الإقتراع في لبنان رهينة عقبات دستورية وسياسية
في خضم الوعود المتراكمة التي تتعاقب المجالس النيابية على إعطائها، يبقى قانون الإنتخاب العادل أسير الطائفية السياسية، ويصطدم وعد تخفيض سن الإقتراع بالطبقة الحاكمة التي تخشى من أن يؤدي تصويت الشباب الى تهديد وجودها واستمرارها.
إن تشريع هذا الحق يتطلب تعديل دستوري، ما يجعل الأمر عسيراً في ظل الأوضاع الراهنة، حيث أن طبيعة الدستور اللبناني من الدساتير الجامدة التي تتميز بصعوبة تعديل موادها التي تتألف منها وبكثرة الشكليات المعقدة، غير أن أحداً من المسؤولين لا يتجرأ على تعديل الدستور الذي حدث لآخر مرة قبل ثلاثين عاما.
هنا تجدر الإشارة الى أن عملية التعديل تتم عبر آليتين: الأولى وفق المادة 77 والتي توجب تقديم عشرة نواب إقتراح قانون التعديل على أن يتم ذلك خلال إحدى دورات الإنعقاد العادية، ومن ثم يصوت عليه بأكثرية الثلثين، أي ما يوازي 85 نائبا من إجمالي عدد النواب البالغ 128، ويرفعه رئيس المجلس للحكومة.
الثانية وفق المادة 65 والتي توجب إقتراح رئيس الجمهورية التعديل ويرفعه الى مجلس الوزراء للمواقفة بثلثي أعضائه، ومن ثم يحيله كمشروع قانون الى مجلس النواب الذي بدوره يصوت عليه، ولكي يصبح نافذاً يحتاج موافقة ثلثي عدد النواب.
مر قانون تخفيض السن الإنتخابي بمحاولات عدة، إلا أن جميعها باءت بالفشل. فعام 1997، وقّع 96 نائبا في المجلس النيابي على العريضة المقدمة من الحملة الوطنية لخفض سن الإقتراع، لكن القانون لم يعرض حتى على التصويت.
عام 2008، أقرت لجنة الإدارة والعدل النيابية تنزيل السن الإنتخابي إلى 18، لكنها انصاعت لعدم خوض تجربة تعديل دستوري جديدة.
اما الآن، فقد تقدمت كتلة التنمية والتحرير النيابية نهاية 2020 باقتراح قانون إنتخابي جديد خارج القيد الطائفي وقائم على النسبية، تشمل بنوده تخفيض سن الإقتراع. وبعد سلسلة مناقشات، لم يتم العمل به على وقع ضغط الهاجس الطائفي والخلل الديمغرافي الذي قد ينتج عنه.
هكذا انقسمت القوى السياسية بين مؤيدين وهم تيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي والثنائي الشيعي، ومعارضين متمثلين بالقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر.
استناداً لدراسة أعدتها “الدولية للمعلومات”، تبين أن عدد الناخبين في الإنتخابات النيابية المقبلة سيزيد 280 ألف ناخب، 180 ألف منهم مسلمون و100 ألف مسيحيون، مما يفاقم الخلل الديمغرافي لمصلحة المسلمين، بحيث تصبح نسبة الناخبين المسلمين 67% مقابل 33% من المسيحيين.
في سياق التباحث بقانون انتخابات دورة 2022، قدم مجموعة من النواب من كتل نيابية مختلفة في تشرين الأول المنصرم، اقتراح قانون تخفيض السن الإنتخابي، ما دفع في المواجهة بعض الكتل المسيحية باقتراح إعطاء ستة مقاعد نيابية للمغتربين.
ولأن السالب والموجب يلغيان بعضهما، توصل مجلس النواب بدواعي ضيق الوقت الى السير بقانون الإنتخاب الصادر عام 2017 من دون تحقيق غايات الطرفين، على أن تجرى يوم الأحد 15 أيار القادم.
الحل الوحيد لخفض سن الإقتراع يتطلب زخما شعبيا وضغطا من الشارع بشكل يومي
في هذا الصدد، يشير رئيس الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الإنتخابات “LADE” علي سليم، إلى أن الخطوة تحتاج زخما شعبيا وتحركاً بشكل يومي على غرار ما حصل في أحداث 17 تشرين الأول 2019 عند سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري بفعل ضغط الشارع، غير أنه يرى صعوبة بالأمر نظرا لحدة الأزمة الإقتصادية وكلفة التنقل والتظاهر، بحيث أصبح هم الناس إيجاد لقمة العيش على حساب الإهتمام بقضايا تمس حقوقهم من سن الإقتراع الى شتى المسائل.
وهنا يؤكد سليم أن الأحزاب تعتزم تعجيز الشعب ليلجأ إليها، معقبا أن “كرتونة الإعاشة هي التي ستحدد صوت الناخبين”.
وعن الخلل الديموغرافي، يعتبر سليم أنه حجة لا تؤثر على عملية الإنتخابات، لأن الشباب عينهم سينتخبون بعد مضي أربع سنوات، مرجعاً السبب وراء ذلك الى عدم إنخراط هؤلاء في سوق العمل وبالتالي عدم إرتباطهم بالنقابات والخلايا العمالية، فيما يعتبر أن من هم فوق سن 21 قد انخرطوا بالشبكة الزبائنية للأحزاب، فتبرمجهم تبعاً لمصالحها.
اما عن مدى إلتزام مجلس النواب تطبيق الديمقراطية في الإنتخابات، فيوضح سليم أن هناك ضبابية بالمسار وضعف إحترام المهل وتكافؤ الفرص بين المرشحين، لا سيما صعوبة فتح حساب مصرفي للترشح بظل إنهيار القطاع المصرفي.
ضمن مساعي الجمعيات اللبنانية منذ سنين لتحقيق خفض سن الإقتراع وتعزيز دور الشباب، تنظم LADE باستمرار لقاءات مع الشباب بالتعاون مع أحزاب ومنظمات، بالإضافة الى حصدها موافقة وزارة الداخلية على السماح لمراقبيها بعمر 18 للإشراف على مراقبة الإنتخابات.
كما أنها قامت مع “التحالف اللبناني لمراقبة الإنتخابات” بإطلاق “الحملة المدنية لقانون الإنتخابات”، وتم إصدار العديد من التوصيات الخاصة بإصلاح القانون الإنتخابي في البلد، وخلصت الى أن عدم إيجاد حل نهائي لمشكلة سن الإقتراع من شأنه أن يشكك في صحة وعدالة التمثيل النيابي في لبنان، على اعتبار أن إشراك الشباب يضمن مشاركة شعبية أوسع ويرسخ مبادئ العدالة والمساواة.
إن أي عملية إصلاحية للنظام الإنتخابي اللبناني تستلزم بالطليعة إعادة النظر بواقع فئة الشباب المهمش، لأن إشراكهم في بناء الدولة يرفع من مستوى البلاد للممارسة الديموقراطية مقارنةً مع باقي الدول، طالما أنه يُنظر للبناني من خلال إنتمائه الطائفي لا كمواطن له حقوق، فإن لبنان ما زال في مرحلة التحضير للديموقراطية التي افتقرها الشباب، فلا تستغربوا نسب الهجرة! إن كان صوته غير مشرع في وطنه.