عندما وصل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى لبنان في الزيارة الأولى التي أعقبت حادثة تفجير مرفأ بيروت، جال في شارع الجميزة القريب من مكان الانفجار، كان أبرز ما قاله يومها، إنّ لبنان يحتاج إلى عقد سياسي جديد بعد فشل النظام الحالي.
لم تكن تلك العبارة الصادرة عن رئيس فرنسا هي تصريح ارتجالي، بل كانت نتيجة تمحّص في حقائق الأزمة اللّبنانية. ثم غيّب ماكرون هذا البعد العميق في تشخيصه لمعاناة لبنان، وغرق في تفاصيل نظام لبناني طائفي شدّه إلى دوران الأزمات فيه، ليتوه ماكرون ومعه تشتّت مبادرته الفرنسية.
سواء أكانت باريس، وخلفها الأوروبيون، وربما الأميركيون، يريدون فرض معادلة سياسية لبنانية تستبعد فريقاً أو كل الأفرقاء، تحت عنوان فشل أداء القوى السياسية اللّبنانية، أو في حال كان يرغب ماكرون صادقاً بانتشال لبنان من دورة الأزمة التي يعيشها لأسباب إنسانية، أو تاريخية، أو نتيجة رغبته بالحفاظ على دور بلاده في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، كل ذلك لا يهم. المهم هل نجح الفرنسيون في مسعاهم؟ حتى الآن فشلت المبادرة في تحقيق أهدافها، لكنّها لا تزال حيّة على قيد الاستمرارية.
أطلّ الرئيس الفرنسي في الساعات الماضية ليحمّل المسؤوليات، ويرمي الاتهامات، ويحصّن انطلاقته المتجددة، ويضع لها عمراً افتراضياً لا يتجاوز الأسابيع الستة المقبلة.
حينذاك، ربّما للمصادفة، تكون الانتخابات الأميركية قد حصلت، وبانت مسارات الإقليم بمؤشرات سياسة البيت الأبيض. أيضاً، هذا وحده لا يهم. المهم: هل ستنجح المبادرة الفرنسية؟ الجواب: في حال بقيت المقاربة ذاتها التي تم اعتمادها في مسار مصطفى أديب، فإن النتيجة ستكون مشابهة. لن تُقدّم مطالعة ماكرون شيئاً جديداً، باعتبار أنّ تطبيق المدنية في جانب حكومي هو عمل جزئي تشوبه العيوب في ظل نظام طائفي.
المهم هو سحق نظام الطائفية، والخروج نحو رحاب عقد إجتماعي جديد يُرسي نظام الدولة المدنية في جمهورية لبنانية ثالثة. وإلاّ ستبقى المعالجات اللّبنانية تخضع للأعراف الطائفية والمذهبية السائدة. هنا تكمن المشكلة التي استهدفت المبادرة الفرنسية. فهل يعلم ماكرون أنّ سلطة العيش المشترك التي يتحدّث عنها الدستور وتشير إليها المادة ٩٥ منه هي التي تُترجم تمسك الشيعة في دور حقيبة المالية بالسلطة الإجرائية؟
إذا كان الفرنسيون يعلمون أبعاد تلك المعادلات، ويتمنون حلولاً آنية، فلا يمكن تسهيل طريق المبادرة من دون تلك المعادلة. وإذا كانوا يريدون دفع لبنان تجاه حلول سياسية واقتصادية مستدامة، فلا يوجد إلاّ طريقاً واحداً: سحق الطائفية السياسية والشروع بإجتراح عقد إجتماعي جديد عنوانه: الدولة المدنية.
اذا كان أي فريق داخلي أو عربي أو غربي، بالمفرق، أو بالتكافل والتضامن، يعتقد أنّ العقوبات يمكن أن تفرض استسلاماً، فهو لا ينطلق من واقعية التركيبة اللّبنانية، بل أنّ تلك العقوبات ستضرّ كل اللّبنانيين، وهي لن تؤدي إلى فرض هزائم سياسية لفريق دون غيره. لمجرّد إعادة استحضار تاريخ لبنان الحديث، يمكن الاستفادة من وقائع سياسية وعسكرية منذ ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللّبنانية عام 1982، وما تبعه من محاولات فرض اتفاق 17 أيار، مرورًا بمحطات الحرب الأهلية، وصولًا إلى اتفاق الطائف. لا يمكن عزل ولا إقصاء ولا إنهاء أي مكوّن في لبنان في ظل وجود نظام طائفي. لذا، فإن الحائط الذي اصطدمت به نوايا فرنسا هو النظام الطائفي. لن تستطيع خرقه إلّا باقتلاع أسسه.
عندها فقط يمكن فرض معايير المدنية على تشكيلة وعمل الحكومة وكلّ المؤسسات التابعة للدولة، عسكريًا وماليًا واقتصاديًا.
عباس ضاهر