“بارانويا”.. عمل يشدّ الأعصاب بأبطال كما لم نعرفهم سابقًا
السوداوية تلفّ كل جوانب العمل. “بارانويا” إسم على مُسمّى. مسلسل يجسّد منذ اللحظة الأولى وفي كل مرور، جنون الارتياب بكل تفاصيله. أسامة عبيد الناصر، الكاتب والمخرج لهذا المسلسل الذي يُعرض على منصّة “شاهد”، ومن إنتاج شركة “الصبّاح”، يدخلنا في متاهة لا فرار منها. يكثّف الغموض، يشتّت الذهن، يتربّص الشكّ في كل مشهد. عمل لا يعالج جنون الارتياب فقط، بل يبرزه ويخيطه ويصقله بـ”فنتازيا” الجنون الإخراجية.
يفتح المخرج غرفاً غامضة يدخلنا إلى عتباتها، يعرض لنا شذرة من دواخل كل غرفة ثم يذهب فينا إلى غرفة أخرى أكثر سوداوية. يشرّع جميع الجدران أمامنا دفعة واحدة، ولا يضيء فيها قنديلاً فتبقى هذه الجدران معتمة وغير واضحة، ولا نستدل على قرار لا في الرؤية ولا في المغزى ولا في تسلسل الأحداث. يشتغل على الغموض وسوء النية في كل سانحة. يشتّت أفكار المشاهد تماماً كالممثلين الأبطال، يدخلنا في دوامة التيه وعدم الاستقرار. ينشر عدوى الجنون من الأبطال إلى المشاهد، ولا نقدر أن نفكّ لغزاً واحداً، بل يعمل إلى تضافر الشك بوتيرة متصاعدة لا تعرف قرارًا ولا تهدأ عند أي مفترق.
عمل كل ما فيه جديد. الإخراج مُتعب والنص متعب والأبطال هم أنفسهم متعبين. قصة تحكي عن فرقة موسيقية صارت فيما بعد أشبه بمافيا تسرق بنكًا، يموت 21 شخصاً من أفراد تعاونوا معهم على السرقة، ويقع الاتهام على بطل المافيا “وزير” الذي يقول إنه بريء من هذه التهمة، ويُزجّ بالسجن وتتعقّد الأحداث مع وجود طبيب نفسي يريد أن يقدّم أبحاثاً ودراسات عن المساجين ووضعهم النفسي وأسباب الجريمة لديهم، ويلتقي بوزير خلال دراسته ويطلب منه مساعدة لتقديم دليل براءته، وحتى يضغط عليه أكثر يقوم أصدقاء وزير بخطف شقيق الطبيب بهدف ضمانة المساعدة.
أكثر من عشر حلقات مرّت ولم نجد في العمل ابتسامة أو مشهد مرح. النكد والسوداوية ليس عنواناً بل مضموناً. الموسيقى المرافقة للعمل زاجرة وتنقر على الأعصاب، الوجوه غاضبة منفرة، كلماتهم مبهمة، أداءهم شر وحتى حبّهم شر وسلوكهم شر. لا نجد مكاناً للتعاطف مع أي شخصية على الرغم من الأداء الرفيع لهم جميعاً، حتى الطبيب الهادئ والطيب لا نشعر تجاهه سوى بالقلق والنفور.
قصي خولي هو “وزير”، بطل بارد عصي تغيّر علينا كثيراً في طلّته المغايرة من شارب كثيف يتدلّىchevron moustache ، هذا الشارب الذي يدلّ على المكانة والسطوة والمنزلة الرفيعة وشعره الطويل أحياناً والحليق أحيانًا أخرى. يؤدي دوره كأنّه آتٍ من مصحّة عقلية. برودته وشكّه في كل شيء وإحساسه بالعظمة والترفع، تقول إنّه شرب الدور شرباً وتحلّل ليصبح هذا المريض العقلي الذي لا يقهر والذي لا يثق بأحد.
كل أبطال العمل كأننا نعرفهم لأول مرة؛ ريتا حايك بتمرّدها وجرأتها ووجهها المغطّس بظلم الكون، وحبّها الذي لا يبرد لكنه مسنّن وطاعن. جنيد زين الدين بطل آخر مُرّ، يتقن لبس فن الإجرام والعنف. الطبيب البارد المشحون الوجه، سعيد سرحان، شخصية هادئة لحد الاستفزاز، صوته يخرج من أعماق البطن همساً، حنجرته ملغاة كأنه يحكي من جوفه، يمشي بخفّة وتوتّر ضعيف وقوي ومطحون في آن. حتى داليدا خليل سنشهدها كما لم نشهدها سابقاً، صوتها المجمّد ونبرتها الحادّة المصقولة وشخصيتها الواقفة كالرمح.
المخرج بدّل كل المفاهيم التمثيلية ودخل في طور جديد من الإخراج القائم على التوتر والمشهدية السريعة جداً، والتي تقفز من تاريخ الى آخر في لحظة. يتعب في تصوير الوجوه وحركتها وكأنّه يصوّر فيديو كليب، يهمّه التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة. كل لحظة تصوير لها معناها ومكانتها، ولا يمكن أن تُهمل أو نغضّ النظر عنها، فهو يريد التكثيف وشدّ العقد وصرمها أكثر، وفي بالنا أنه سيحلّ بعضها. لكن حتى الآن ما زلنا نكتشف أنّ هذه الشخصيات ومعناها، بالرغم من مرور أكثر من عشر حلقات، لا نعرف الشر من الخير ولا الحقيقي من الكاذب ولا السقيم من المعافى.
هذا النوع من الأعمال التي تدخل في صياغة التجديد الكلي نصاً وإخراجاً وأداءً، قد لا تلقى شعبية لأنّها متعبة وتحتاج الكثير من التركيز، ولا تنمّ عن تسلية بقدر ما تدخل في عصب المشاهد وقدرته على التحليل والتركيز، لكنّها تؤسّس لنوع جديد من الدراما.
كمال طنوس