الصراع على “ما بعد المالية”.. أديب أمام خيارين: الرضوخ أو الاعتذار!
أسبوعٌ بعد آخر، يخفق رئيس الحكومة المكلّف مصطفى أديب في تحقيق تقدّم جدّي في تذليل العقبات التي تعترض عمله، فما إن أُعلن عن المبادرة الفرنسية التي شهدت زخماً كبيراً مع زيارتَي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى بيروت، حتّى بات الجميع ينتظر “التخريجة” التي ستُولد على أساسها الحكومة الجديدة، ولم يكن أكثر المتشائمين يتوقّع أن تتوقف عجلة المبادرة عند أبواب وزارة المالية بعد تمسّك “الثنائي الشيعي” بها حفاظًا على “التوقيع الثالث الميثاقي”.
الحديث عن الإطاحة بآخر فرص لبنان للنجاة من سلسلة الانهيارات المالية والاقتصادية وحتّى السياسية بسبب هويّة وزير المالية، فيه الكثير من “التبسيط” للوقائع. وبصرف النظر عن أحقية الثنائي بالمطالبة بـ “التوقيع الثالث” من عدمه، إلا أن تضخيم هذه الأزمة في ظل الوضع الراهن أصبح نوعاً من الترف السياسي، فالرئيس نبيه بري الذي لم تستفزه عشرات السنوات من تولّي “السنة والمسيحيين” للوزارة، لم يعرض لغاية الآن “المستجدات” التي فرضت عليه هذا التصلّب في الموقف، و”حزب الله” الذي لطالما أعلن أن دخوله المعترك الحكومي هدفه الأول والأهم حماية ظهر المقاومة، لم يُحاول يوماً توزير أحد شخصياته في المالية. ومن غير المنطقي أن “الثنائي الشيعي” الذي قبِل بأن تُضرب قاعدة “تشكيل الوزارة بصورة عادلة بين الطوائف”، وفقاً للبند “أ” من الفقرة الثالثة من المادة 95 من الدستور، بهدف توزير فيصل كرامي في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي – أصبح بموجبها عدد الوزراء السنة يفوق الوزراء الشيعة – أن يقف اليوم سداً منيعاً أمام حلحلة العقدة الوزارية من أجل مجرد “مكسب طائفي”.
أضف الى ذلك، أن تجربة الثنائي عبر الوزير علي حسن خليل في وزارة المالية لم تكن مشجعة، وإن لم يكن هو المسؤول الوحيد عمّا آلت اليه الأوضاع، إلا أنه كان شاهداً، على أقل تقدير، على انهيار سعر الصرف وتبخّر ودائع اللبنانيين وتراجع القيمة الشرائية، حتّى باتت البلاد تُعاني من أزمة نقدية ومالية واقتصادية. كما أن حصر الدور الشيعي بتوقيع وزير المالية يبدو تصوراً هزلياً في ظل ترؤّس الطائفة، وفقاً للعرف الدستوري، لأم السلطات في النظام البرلماني.
في المقابل، فإن تمسّك نقابة رؤساء الحكومات المتقاعدين بعدم التنازل عن وزارة المالية يطرح العديد من علامات الاستفهام، فالسنيورة وميقاتي والحريري وسلام سبق لكل منهم أن ألّف حكومته بشراكة مع الثنائي الشيعي، ومن المؤكد أن ضريبة القبول بتوزير شيعي في المالية ستكون منخفضة بأضعاف، ضريبة تحمّلهم تداعيات سقوط المبادرة الفرنسية، لذا يصبح تمسكهم بمبدأ المداورة جزءًا من مشروع سياسي يهدف الى ما هو أكبر من التخلي عن المالية.
انطلاقا ممّا تقدّم، يبدو أن المشكلة أعمق وأكثر تشعباً من حقيبة وزارة المالية والحديث عن المثالثة، فهي تتعلّق بجوهر الصراع السياسي في البلاد الذي تتداخل فيه الحسابات الداخلية بالمواقف الدولية، وتحديداً الفرنسية والأمريكية. وأمام هذا الواقع يصبح السؤال الأهم: ما هي طبيعة الصراع الذي يتخذ من وزارة المالية مرتكزاً للتفاوض؟ وهل يتماشى أم يتناقص الموقف الأمريكي مع بنود المبادرة الفرنسية؟
الإجابة عن هذا السؤال تحتاج للعودة إلى أصل المبادرة الفرنسية التي بدأت على أساس الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، والتي تحوّلت إلى تشكيل حكومة مستقلة عن القوى السياسية.
هذه الحكومة التي يفسرها “حزب الله” على أنها تنفيذاً للرغبات الأمريكية بإقصائه عن الحكومة، دفعته لتطوير موقفه من الترحيب بالمبادرة الى الحذر من خلفيتها، خصوصاً أنها تترافق مع التصعيد الأمريكي الذي بدأ يتّخذ أشكالاً أكثر تشدّداً مع فرض العقوبات المالية. وما زاد من تخوّف “حزب الله” هو قول وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو “نعمل مع الفرنسيين في لبنان، ولدينا الأهداف نفسها”.
من هذا المنطلق، تصبح معركة الحصول على وزارة المال صورة مصغّرة للصراع الحقيقي، ويصبح التمسّك بها بالنسبة للثنائي يُعادل بأهميته المسألة الوجودية للطائفة الشيعية في النظام السياسي اللبناني. فلم يعد إقصاء الثنائي عن هذه الحقيبة مجرّد محاولة لكسب المزيد من الحصص الوزارية، أو ورقة تفاوضية يمكن استثمارها في توزيع الحقائب، بل باتت نتائجها مرتبطة بقدرة الجانب الأمريكي على فرض معادلات جديدة في الداخل اللبناني، وهذا ما سيُساهم بتفاقم الأزمة التي قد تصل الى تخيير الرئيس المكلّف مصطفى أديب بين العودة خطوة الى الوراء أو الاعتذار عن تشكيل الحكومة.
مهدي كريّم