بين الدولة المدنية وخيار المثالثة… لبنان عالق في الطائف
المالية تضمن التوقيع الثالث للثنائي الشيعي
بعد 25 عامًا من الاشتباكات المسلّحة بين اللّبنانيين، خرج لبنان باتفاق الطائف. هو الاتفاق الذي حصل تحت مظلة الـ “سين سين”، لا تزال مداولاته غير الرسمية موضع نقاش حتى يومنا هذا. الثابت في وثيقة الوفاق الوطني هو المناصفة أو ما يسمى بمقتضيات العيش المشترك.
تنص الفقرة “ي” من مقدمة الدستور أنّ لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
المادة 24 من الدستور تنص على المناصفة في مقاعد مجلس النواب بين المسيحيين والمسلمين.
والبند “أ” من الفقرة الثالثة من المادة 95 من الدستور تنص حول وجوب تشكيل الوزارة بصورة عادلة بين الطوائف.
وان خرج المسيحيون مهزومين من الحرب اللّبنانية مع ما رافق ذلك من موجة للهجرة وتغيّر ديمغرافي لصالح المسلمين في البلاد، إلّا أنّ التمسك باتفاق الطائف كان من ثوابت العمل السياسي ليتحوّل إلى شكل من أشكال المقدسات اللّبنانية الممنوع المس بها. بلغت المناصفة منزلة القدسية في النظام اللّبناني حتى قال الرئيس رفيق الحريري يوم اتهم بمصادرة أصوات المسيحيين ، “وقفنا العد” في رسالة إلى الالتزام بالمناصفة مهما بلغ الخلل الديمغرافي لصالح المسلمين.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وخروج الراعي السوري للحياة السياسية اللّبنانية، وانحسار الدور السعودي والغربي نظرا لتطورات المنطقة، غالبًا ما تعرّض اتفاق الطائف لأزمات أعادت النقاش حول مدى صوابية استمراره كنظام حكم في لبنان.
وفي البدائل المطروحة على طاولة النقاش، خيار الدولة المدنية العلمانية الشاملة وخيار المثالثة.
ما هي المثالثة؟
مع تعاظم قوّة الثنائي الشيعي وتحديدًا حزب الله، ومع تغيّر موازين القوى الديمغرافية ثمّة من يرى أنّ أيّ إعادة تموضع لحزب الله في المنطقة سيفترض دخوله إلى النظام اللّبناني على مستوى حجم التمثيل. وعليه، كثر الحديث عن الدولة أو الدويلة، وعن تعاظم دور الدويلة وضرورة عودة حصرها في إطار الدولة.
وهنا بدأ الحديث عن المثالثة التي تنقسم فيها مقاعد مجلسي النواب والوزراء إلى ثلاث. ثلث للمسيحيين بكل مذاهبهم، ثلث للسنّة وثلث للشيعة. إلّا أنّ الذهاب إلى المثالثة أمامه عوائق ليتحقق. أوّلا تصطدم المثالثة باعتراض مسيحي كامل يعتبرها تغيّر في وجه لبنان وتشكِّل خطرًا على وجود المسيحيين فيه. ثانيًا، أنّ تحقيق المثالثة يحتاج إلى تعديل دستوري وأي تعديل يحتاج إلى إجماع وطني.
وبينما يبدو ذلك متعذرًا جدًا، اتّخذ النقاش حول حقيبة المال وأحقية تثبيتها للطائفة الشيعية بعدًا آخر، بعدًا يكاد يشبه بعد المثالثة.
هل التوقيع الشيعي الثالث هو المثالثة؟
تقنيًا تكاد تكون الإجابة على هذه الاشكالية محسومة. ليس التوقيع الشيعي الثالث مثالثة. إنّما يصبح النقاش مشروعًا في البعد السياسي لهذه المعادلة.
وان كانت مقرّرات وثيقة الوفاق الوطني في الطائف عام 90 واضحة لجهة خلوّها من أيّ بند يتعلق بتثبيت حقيبة المال للطائفة الشيعية، إلّا أنّ السجال بين رجالات الطائف حول مداولاته يعيد في كلّ مرّة هذا النقاش إلى الواجهة.
فبينما يؤكد الرئيس حسين الحسيني أنّ مداولات الطائف تضمنت اتفاقًا على إعطاء الطائفة الشيعية حقيبة المال، يحرص الوزير ادمون رزق على نفي الأمر نفيًا قاطعًا متوجهًا إلى الحسيني طالبًا منه أن يشهد للحق ولاتفاقهم على أنّ الطائف علماني.
وعليه، يعود هذا الخلاف أو الاختلاف بين واضعي اتفاق الطائف ليظهر عند كلّ تشكيل حكومة سيّما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري والخروج السوري من لبنان.
التوقيع الثالث، مشاركة أو تعطيل؟
بعد الطائف عام 90، تناوب على وزارة المال شخصيات مارونية وسنّية باستثناء الوزير علي الخليل الذي عيّن وزيرًا للمال مباشرة بعد الطائف. في ذلك الحين كان اتفاق الـ “سين سين” راعي المشهد السياسي اللّبناني. وكان التوافق السنّي الشيعي على تولّي رفيق الحريري إدارة البلاد المالية بالشراكة مع الرئيس نبيه بري وتولّي حزب الله إدارة البلاد أمنيًا وعسكريًا في الصراع مع اسرائيل راعي مصالح القوى السياسية المختلفة.
تغيّر الحال بعد الاغتيال. فمع تغيّر موازين القوى وتسارع المتغيرات السياسية في لبنان، عاد الثنائي الشيعي للمطالبة بتثبيت حقيبة المال لما لها من أهمية في تشريع وجوده في قلب النظام اللّبناني.
يفترض كلّ مرسوم أن يحصل على توقيع رئيس الجمهورية والحكومة بالإضافة إلى توقيع الوزير المختص ليصبح نافذًا. وعلى اعتبار أنّ كلّ مرسوم يتضمن نفقة مالية معينة، يصبح توقيع وزير المال شرطًا لإصداره. وعليه، يتمسك الثنائي الشيعي بتوقيع وزير المال ليكون موازيًا لتوقيع رئيس الجمهورية المسيحي ورئيس الحكومة السنّي. فدعي التوقيع بـ “التوقيع الشيعي الثالث”.
لم ينزل هذا المطلب الشيعي بردًا وسلامًا على الطوائف الأخرى. إذ اعتبرت أنّه انقلاب على الدستور خصوصا أنّ لا نصوص قانونية ودستورية قد نظمت تقاسم الحقائب على الطوائف. الأوساط السنّية تعتبر بأنّ ترسيخ توقيع ثالث هو إعطاء القدرة على التعطيل لا على المشاركة على اعتبار أنّ أصحاب التواقيع في لبنان يتحوّلون إلى معطلين متى كان ذلك لمصلحتهم. في المقابل ترى الأوساط المسيحية بأنّ ذلك يسهم في إضعاف موقع الرئاسة الأولى أكثر فأكثر بعد ما لحق بها من ضرر في الطائف. وتقول هذه الأوساط لـ “أحوال” إنّ تكريس المال للشيعة يتوجب معه تعديل الماده 56 من الدستور التي تجيز إصدار المراسيم دون توقيع رئيس الجمهوريه (التوقيع الأوّل) بعد انقضاء 15 يومًا من إيداعها الرئاسة.
وبينما يبدو ذلك متعذرًا أيضًا، ليس الوفاق الوطني في أبهى حلله اليوم. هي فقط وثيقته التي لا تزال ترعاه بالتي هي أحسن.
اجماع القوى السياسية على ضرورة الوصول إلى عقد اجتماعي سياسي جديد وجد ضالته في المبادرة الفرنسية. حزب الله من موقف فائض القوّة والضعف معًا وجد نفسه بعد رفيق الحريري يقول “وقفنا العدّ”. تيار المستقبل تآكلت قواه فوجد نفسه أضعف من الاستمرار بحماية الطائف والمحافظة عليه. أمّا المسيحيون، فكما خسروا سابقًا عسكريا يخسرون اليوم في السياسة. كلّ القوى تراكم خساراتها من دون الوصول بعد إلى مساحات مشتركة. وإلى ذلك الحين يبدو أنّنا عالقون بين جحيم الحرب وجنّة عقد جديد.
جوزفين ديب