أكثر أساتذة الإعلام تمكنًا، يزرع في طلّابه حبّ الصحافة، يواكب زرعه، يسقيه حتى يُثمر، يراقبه حتى يونع، يقطفه ويرافقه إلى السوق.. يرفض أن يُقالَ فيهم تلامذة، “هم طُلاب، يطلبون العلم”.. ينسج معهم علاقة عائلية، ينقلها إلى خارج جدران الجامعة، يجمعهم بزوجته وأولاده.. كثير المعرفة عظيم البساطة.. يبتكر أسهل الطرق وأطرفها لإيصال أعقد الرسائل… لم تشهد الجامعة اللّبنانية أستاذًا على غرار البروفيسور أحمد زين الدين.
غاب قبل أربع سنوات، إلّا أنه في عالم الصحافة لا يزال في عداد الأحياء، مع كلّ مقال يُكتب وكلّ تحقيق يُنجز يبقى زين الدين على قيد الحضور في ضمائر الصحافيين الغيورين على المهنة.
رغم أنّ المرض التهم أحشاءه والشحوب اعتلى ملامحه والضمور تمكن من بدنه، إلّا أنّ خبر وفاته كان له وقع الجليد على كلّ من عرفه ورافقه في زمن الداء.. فهو أرسى قاعدة واحدة طوال هذه المدّة “لن يغلبني ذاك الخبيث”.
مواقف جمعتني فيه
يوم نقلوا لي خبر وفاته، لم يتّسع صدري لكلماتي، اختنقتُ بحروفي، فلم أجد إلا الدموعَ ملاذاً. اليوم، وفي ذكرى رحيله الرابعة أجدني أسترجع مواقف جمعتني فيه داخل الصف وخارجه.
لم يكن لقاؤنا الأوّل على درجة عالية من الوئام، رآني أعبث بهاتفي… خاطبني بقسوة، “احملي كلاكيشك واطلعي من صفي”، هكذا استهلّ علاقتنا!، قالها وهو متجهّم الوجه، حازماً، فأدركت ألّا مجال للطعن بقراره والاستئناف… لم أتفوّه بكلمة، رغم شعوري بالغبن، فأنا لا أستحق هذا، كنتُ أتفحص بريدي الإلكتروني لأمر هام يتعلق بوظيفتي… لكنّي ما بررتُ شيئًا… غادرتُ فقط.
لم أتوقّع حينها أنّ الرجل الذي طردني من صفّه بجفاء، في أوّل لقاء بيننا، سيعرّفني في المقبل من اللّقاءات بـ”صديقتي الطيبة”، ويضمّني إلى “عائلته النوويّة”. لم يخطر لي أنّ الذي دفعني إلى أن ألعن الصحافة آنذاك هو نفسه الذي أعادني للتشبث بها والمضي بعزيمة وإصرار.
أذكرُ يوم قرأ أحد التلامذة على مسمعه خبرًا صحافيًا أعدّه في المنزل، طأطأ د. أحمد رأسه وأطلق صفارته لتنبيهه إلى الخطأ، مسكين ذاك التلميذ لم يدرك أنّه تخطى “الموضوعية” في نصّه واخترق، بنظر أستاذه، دستور الصحافة المُنزل.
في آخر رمضان له، زرتُه في منزله وقد بدا نشيطاً، متفوّقًا على نفسه بالرغم من نحوله، “هذه السنة تضاعف انتاجي فقد كان عامي مثمراً أكثر من أعوام خلت”، أتقن السخرية من مرضه، والنكاية بآلامه.
الموت ليس في حساباته! حدّثني عن رواية شرع بكتابة أولى صفحاتها على أن يكملها فور تعافيه…
في لقائنا الأخير، يوم دخلتُ عليه في مستشفى أوتيل ديو غرفة 4716 خلال وعكته الأخيرة، كان يهمّ للمغادرة مع زوجته إلى المنزل، لكن ما إن رآني حتى استرجع تموضعه في الفراش، استقبلني بحفاوة قلّ نظيرها بين أستاذ وطالب، سارع لالتقاط “السلفي” معي رافعًا علامة النصر، “صرت مدمن صور” قال بروحٍ طفولية. أردت الاستئذان لكنّه لم يسمح، “اجلسي لخمس دقائق فقط”، فأذعنتُ له… وجلستُ لساعة ونصف الساعة!
جميعنا لم يَشأ لحديثنا أن ينتهي، عرّجنا على شتّى المواضيع، الحياة الطفولة الصداقة الشباب الوطن السياسة الحب الزواج الأولاد، إلّا الدرس، لم يرد للقائنا الأخير أن يكون كأسلافه، فما ان حدّثته عن رسالة الماستر التي يُشرِف عليها حتى قاطعني قائلا: “روحي صّيْفي وارجعيلي بآخر آب”.
أخبرني حكاياته الصغيرة عن قطعة أرض “بالضيعة” يخطّط لشرائها ليبني عليها منزلاً متواضعاً مع حديقة صغيرة: “حلو الواحد يخَتْير بالضيعة ويشوف أحفاده جنبه”، قال كلماته هذه وهو على فراش الموت…
انتظرتُ آب أن يمضي، بدا طويلًا وبليدًا، لكنّي كنت أوقن أن فيه تجدداً، لم يُخالجني ارتياب أو تشاؤم بأنّ نهاية آب لم تكن لتحمل لي البُشرى، بل كان إيماني كبيراً بأنّ الشخص الذي يقاوم “طاعون العصر” سينتصر بابتسامته الهادئة واطمئنانه، والذي يشعّ في محيطه تفاؤلاً وإيماناً، هو الذي يدرك تماماً أنَّ “الحياة انتصارٌ للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء”. مضت الأيام… وأتى آخر آب لكنّ “المعلّم” رحل.
أعلم أنّه لو قرأ نصي هذا لأوسعني عتبًا وأبرحني نقدًا، هو الذي لا يطيق أن تقترب العاطفة من أيّ نص صحافي، ولكن في استذكاره من الطبيعي أن أخرق قوانين الحياد عن سابق تصوّر وتصميم… عذرًا فمشاعري هنا أعظم من أن تُوارى.
نُهاد غنّام