الرجل ذو القبضة الحديدية على موارد لبنان المالية يواجه أسئلة واستجوابات من لبنان إلى أصقاع العالم. رويداً تنزلق القشرة الصلبة التي ارتداها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كلباس للشطارة والنباهة لتظهر الحقيقة العارية لرجل أنهك الخزينة اللبنانية وأفرغ خزائن الدولة.
الشعب اللبناني ممنوع من الحصول ماله من البنوك، العملة منهارة، والاقتصاد اللبناني يترنّح فيما يواجه عهد رياض سلامة في البنك المركزي مزاعم بالاحتيال والسيطرة على الأموال وسط مواربة سياسية وإدارة وجه السلطات السياسية… لكن يبدو آن أوان الحساب قد حلّ من البوابة القضائية الخارجية.
وأخيراً، في لبنان قررت النيابة العامة التمييزية، استجواب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في 5 آب / أغسطس، حيث سيخضع للتحقيق أمام المحامي العام التمييزي جان طنوس، بالتزامن مع الكباش الحاصل حول فتح الاعتمادات من الاحتياطي الإلزامي، واشتراط سلامة أن يكون من ضمن القانون.
وسيمثل سلامة أمام النيابة العامة التمييزية بصفته مشتبهاً فيه باختلاس أموال من المصرف المركزي، والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال والتهرّب الضريبي والتزوير واستخدام المزوّر وغيرها من الاتهامات الكفيلة بكف يد أي مسؤول في العالم ووضعه تحت المراقبة.
مصادر مطلعة، تفيد بأن القاضي طنّوس، وهو المحامي العام المالي المكلّف من قبل النيابة العامة التمييزية بمتابعة الطلب السويسري بحقّ سلامة، بات لديه ملفًا دسمًا وكافيًا لإدانة حاكم المصرف المركزي، وهذا ما يُفسّر تعيين جلسة استماع في الأسبوع الأول من آب كمشتبه به، لا كشاهد. ومن المحتمل أن تقود جلسة الاستماع إلى قرار توقيف أو إلى حفظ الملف في حال استطاع سلامة تقديم أجوبة شافية ردًا على الاتهامات!.
سلامة المتواجد حاليًا خارج لبنان لا يملك خيار التذرّع بالسرية المصرفية، لأن شبهة “الإثراء غير المشروع” تُسقط كل أشكال السرية والمسار القانوني ينتهي إمّا بتجميد الملف في حال قدّم سلامة مستنداته حول بناء ثروته أو يتم تحويله إلى النيابة العامة المالية وقاضي التحقيق.
لكن الخطوة القضائية، المرتقبة في مطلع الشهر المقبل، ينقصها قراراً حقوقياً من نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف. قرار يجب أن يستثني به النقيب هذا الملف من الإضراب الذي تُنفذه النقابة منذ أكثر من شهرين من أجل المطالبة بإقرار قانون استقلاليّة القضاء ومنع التدخلات السياسية والأمنيّة فيه، لأنّ القانون يفرض حضور محامي سلامة جلسة الإستجواب وفي ظل الإضراب لا حضور للمحامين ولا جلسات. فهل يُلاقي نقيب المحامين العدالة؟ نقيب “الثورة” بحسب مطلعين، سيتعاون لأجل الحقيقة والعدالة…
قرار القاضي طنوس جاء بعد أيام قليلة، على نقل ملفّ التحقيق الذي فتحته فرنسا بثروة سلامه، من مكتب المدّعي العام المالي في باريس الى قضاة التحقيق المالي المتخصّصين بجرائم مكافحة الفساد.
حقيقة الرجل “المعجزة” في الإعلام الغربي باتت رائجة بعدما أسبغ عليه في الماضي صفات “سوبرمان”. ولاكتشاف معالم الانهيار الاقتصادي في لبنان، أعدّ بن هوبرد، مدير مكتب صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في العاصمة اللبنانية بيروت، وليز ألدرمان، كبيرة مراسلي الصحيفة للشؤون التجارية والاقتصادية في أوروبا، تقريراً مطوّلاً سلَّطا فيه الضوء على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي يواجه تحقيقات دولية عدة من بينها في فرنسا وسويسرا بشأن مزاعم فساد متورّط فيها، بعدما كان ينال قدراً كبيراً من الإشادة والإطراء على حسن إدارته لموارد لبنان المالية.
سلامة، بحسب التقرير المنشور منذ يومين، استخدم منصبه لتقديم “خدمات لسماسرة السلطة” في النظام السياسي اللبناني. كما حصل أبناء المسؤولين البارزين على وظائف في المصرف المركزي ما اعتبره الكاتبان أن “سلامة مُتَّهم حالياً بارتكاب خطيئة لا تُغتفر: إثراء نفسه ودائرته الداخلية عبر سنوات من الفساد”. وقد فتح قضاة مكافحة الفساد في باريس تحقيقاً هذا الشهر بشأن ادِّعاءات جنائية مفادها أن سلامة جمع ثروة طائلة في أوروبا عن طريق إساءة استعمال سلطته. كما طلب الادِّعاء العام في سويسرا من السلطات اللبنانية مساعدته في إجراء تحقيق منفصل في عمليات الاختلاس المشتبه بها وغسيل الأموال المرتبطة بسلامة وشركائه.
أكبر مخطّط بونزي
على الرغم من الانهيار الذي يعاني منه اقتصاد لبنان، لم يواجه سلامة، مهندس السياسة النقدية في لبنان منذ عام 1993، أي دعوات جادة لإقالته من منصبه، مع أنه أشرفَ على إستراتيجية تتطلب مزيداً من الاقتراض لتسديد مدفوعات الدائنين الحاليين، وهو ما وصفه بعض النُّقاد بأنه أكبر مخطط “بونزي” (عملية استثمار احتيالية عن طريق الدفع لأقدم المستثمرين باستخدام أموال جُمعت من المستثمرين الجدد) في العالم.
الدور المركزي في شبكة المصالح التجارية والسياسية الفاسدة في لبنان شكل سوراً حمائياً للحاكم ضمنت عدم التحقيق معه محلياً ومنعت التدقيق في حسابات سلامة. واستطاع القابض على النقد اللبناني أن يبني إمبراطورية داخل البنك المركزي، واستخدمها ليجعل وجوده ضرورة لا غنى عنها للأطراف الفاعلة من الأثرياء وذوي النفوذ، عبر مختلف الأطياف السياسية اللبنانية.
تحقيقات فرنسية وسويسرية
غير أن التحقيقات في فرنسا وسويسرا تُشكل تهديدات جديدة لموقف سلامة ولمكانته التي نصبها لسنوات طويلة في الداخل والخارج. ويُحقق القضاة الفرنسيون في شكوى تتّهم سلامة وشقيقه رجا سلامة وبعض أقاربه وماريان الحويك، مديرة المكتب التنفيذي لحاكم مصرف لبنان المركزي، بالاستيلاء على أموال بطريقة غير مشروعة ونقلها من بنوك لبنان إلى البنوك السويسرية، وبعد ذلك غسل الملايين منها في فرنسا من خلال الاستثمار في سوق العقارات، بما في ذلك العقارات الفاخرة الواقعة بالقرب من برج إيفل.
وبشكل منفرد، يُحقق مكتب المدعي العام السويسري في بيع سلامة وشقيقه سندات خزانة المصرف المركزي، من عام 2002 إلى عام 2015، وتحويل البنك ما لا يقل عن 330 مليون دولار من العمولات إلى حساب شركة “Forry Associates”، وهي شركة وساطة مملوكة لشقيقه، في سويسرا.
كما يبحث الادِّعاء السويسري في مزاعم بأن رجا سلامة حوَّل أكثر من 200 مليون دولار من حساب شركته في سويسرا إلى حساباته في البنوك اللبنانية التي تربطه بها علاقات سياسية قوية. ومن بين هذه البنوك بنك “ميد”، المملوك لعائلة رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الراحل الذي عيَّن سلامة حاكماً لمصرف لبنان المركزي.
وإلى الآن، لم يوجّه الادِّعاء العام السويسري أو الفرنسي أي اتهامات لسلامة أو أخيه أو مساعديه. ومن غير الواضح كم ستستغرق التحقيقات من الوقت.
خدمات لسماسرة السلطة
تقرير الصحيفة الأميركية نقل عن موظفين سابقين في مصرف لبنان المركزي ومسؤولين أجانب، تحدثوا شرط عدم الكشف عن هويتهم، أن سلامة استخدم منصبه أيضاً لتقديم “خدمات لسماسرة السلطة” في النظام السياسي اللبناني. كما حصل أبناء المسؤولين البارزين على وظائف في المصرف المركزي. وكما هو معروف أن جمعًا كبيرًا من رجال الأعمال والسياسيين والصحافيين، الذين يقدّمون فروض الولاء وتلميع صورة الحاكم، استفادوا كثيراً من القروض المدعومة من مصرف لبنان المركزي وغيرها من الترتيبات المالية.
الحديث عن المصلحة الشخصية لسلامة متداول منذ سنوات، وفق “نيويورك تايمز”، ففي البرقيات الدبلوماسية لموقع “ويكيليكس” وصف السفير الأميركي السابق في لبنان، جيفري فيلتمان (المبعوث الخاص الآن للقرن الأفريقي)، سلامة في عام 2007 بأنه “يشاع عن سلوك فاسد، وميّل للسرّية والاستقلال غير القانوني للبنك المركزي”.
في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يعانيه لبنان، يتساءل بعض اللبنانيين: “كيف يُمكن لسلامة أن يظلّ في منصبه على رأس البنك المركزي في ظلّ سياسته النقدية التي فشلت فشلاً ذريعاً؟”.
الجواب ليس صعبًا بسبب الرعاية السياسية والشراكة مع شبكة عنكبوتية في قطاعات السياسة والمال والإقتصاد والإعلام ستصاب بالانهيار مع سقوط سلامة.