“بعد ما شفت شي” لـ غسان الرحباني..فطيرة ساخنة خالية من طعم الحنين ومذاق الأوهام
“بعد ما شفت شي”، ومشهد خراطيم الفيول تبدو البداية والنهاية. بداية وطن يمكن أن يمشي على عجلات ويضيء ليل منازله ويشغّل مصانعه وخطوط اتصالاته. أو نهايته في العتمة والشلل. الفيول هو الذي سيكتب آخرتنا في هذا الموت البطيء وهو خرطوشة الرحمة في زمن تلاشى فيه الوطن.
غسان الرحباني يطلق أغنيته الجديدة هذه على وقع هذا الانهيار: انهيار الليرة وانقطاع البنزين وارتفاع الاسعار. أغنية تستحضر مرارة واقعنا في الحرمان من تناول اللحمة والفقر المشفوع بالدعم والذل أمام محطات الوقود والنتيجة بعد ما شفت شي.
الرحباني كما في كل مرة يستشف الواقع أغنية بطريقة ساخرة لكنها موجعة. وكل ما قاله بات حقيقة. فيوم أطلق أغنية “صارت سنة الالفين وزبط البلد، خلصت سنة الالفين وبقينا على الحديد”. كان صادقاً في توصيفه واقعنا. وما ظننا أننا بعد أكثر من 20 عاماً سنشهد حياتنا على صدأ الحديد.
لا تنتهي مدة صلاحية أغنيات غسّان الرحباني فهو دوماً في المرصاد ، بأغنياته الساخرة والناقدة للواقع اللبناني، على رأسها «طريق المطار»، «معالي الوزير» و «سنة الألفين». وlockdown التي أتت من رحم أزمة فيروس كورونا، و”أشتغل وما تقبض يا حبوب “ومن ثم “معك ما معك ” التي تتناول الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد، وخصوصاً ودائع المواطنين في المصارف. و”أرسم عمري ” و”لسه فاكر ” ليتممها بـ “بعد ما شفت شي”. أغنية الذروة لواقع لا يتبدل والأزمات تتصاعد وتتفاقم.
غسان هو كاتب وملحن هذا المسلسل من الاغاني التي تبدو حية باستمرار وطازجة، ليس لأنه وضع فيها بذرة الأبدية، بل لأن مواضيعها تتطابق مع حياتنا التي لا تتغير، وإن تغيّرت فمن سيء إلى أسوء. وهو بفطنته الفنية وطريقته الكوميدية استطاع أن يضع يده على الجرح لتصل أغانيه الى الناس وتكون حاضرة بأسلوبه التهكمي.
أبن الرحباني الجديد له خطه الفني الذي لا يشبه الآباء وأن تقاطع معهم في تأليف الفن كلمة ولحناً ومسرحاً. فهو له جبلته الخاصة التي تميزه كفنان قائم بذاته له كلمته العصرية والنابضة بأوجاع الناس بعيداً عن الوهم والتجميل. فهو يحصد من بيدر الحاضر وشارع العامة، ويعجن حنطته في لكّنه الخاص، ويقدمها فطيرة ساخنة خالية من طعم الحنين ومذاق الأوهام. لذا تبدو أغانيه حالة مقطوفة من سيناريو نعيشه سواء بالكلمة او بالكليب. وهذا الاختلاف دليل على أنه رحباني الموهبة وليس نسخة شبيهة عما نعرفه من الرحابنة الآباء.
“بعد ما شفت شي ” عمل يصور مآسينا الحالية كلها ويعرج على أولئك الذين استلموا البلد «من 30 سنة، وما طلع من أمركن شي»، فتتوجّه إليهم الأغنية مطالبة إيّاهم بالرحيل، مع التأكيد أنّه «بدنا نعلّق المرسة… وغير ما الفاسد يتحاكم والسارق يتحاسب ما رح يظبط شي… والأرزة بدنا نشكّا والرقبة بدنا نفِكّا… وإجرك رح منسِكّا وبعد ما شفت”.
كلمات عابرة للبيئة الشعبية، التعابير عامية المنحى، والنحو أعماقه طافية والصورة مقطوفة من ألسنة الناس العاديين. أغنية حماسية تصلح لمظاهرة رافضة لكل ما هو قائم.